نحن في حاجة إلى أن نعد منا مستغربين يدرسون أديان البلدان الغربية وثقافاتها وحضارتها، وواقعها، لنبني صلتنا بها على أساس علمي متين.. الغربيون حينما أرادوا التأثير فينا أنشأوا المراكز العلمية، وفرغوا منهم رجالا ونساءً لديهم العلم بثقافتنا وواقعنا، ليدرسوا كل ما يتصل بنا دينًا وفكرًا وثقافة، فظهر ما نسميه الاستشراق، الذي وجدنا فيه من استطاع أن يدرس حتى علومنا الدينية بجدية، بل ووجدنا بعض المستشرقين يشارك في عمل جاد لتسهيل الاطلاع على تلك العلوم، كما صنع بعض المستشرقين، وعلى رأسهم الدكتور (ونسنك)، الذي نشر جهدهم العلمي المتفوق، المتمثل في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، والذي سهل مهمة الباحثين عن الأحاديث النبوية في الكتب الستة وموطأ الإمام مالك ومسند الإمام أحمد، ومسند الدارمي، وقد ترجم إلى اللغة العربية، وأصبح المعجم الأهم حديثيًا، وكذا كتاب كنوز السنة الذي وضعه الدكتور ونسنك وحده في كتب الأئمة الأربعة عشر، وهم البخاري ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي وابن ماجة، والدارمي، ومالك، وزيد بن علي، وأبو داود الطيالسي، وأحمد بن حنبل، وابن سعد، وابن هشام، والواقدي، وقد ترجمه إلى العربية الأستاذ محمد فؤاد عبدالباقي، وهو من أوائل المترجمين عن اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وهو من ترجم أيضًا كتاب (تفصيل آيات القرآن الكريم) وهو فهرس لمواد القرآن الكريم يضع الآيات التي في موضوع واحد، في موضع واحد، ويعرض موضوعات الكتاب العظيم، على حروف المعجم، وضعه إدوارد مونتيه باللغة الفرنسية، والذي يرجع إليه كل باحث اليوم لجمع الآيات التي تبحث في موضوع واحد، وهذه الجهود العظيمة بذلت في سياق معرفة الشرق الإسلامي، عقائده وأفكاره وحياته وواقعه، ولذلك أنشأت الجامعات الغربية أقسامًا شرقية تدرس آداب المسلمين وتاريخهم ودينهم، وحياتهم الواقعية، وحينما استعمر الغرب بعض بلاد المسلمين أفادته تلك الدراسات في حسن إدارة البلدان المستعمرة والتفاهم مع أهلها، ولا يزال أمر الغرب على هذا النهج حتى يومنا هذا يبني كل خطواته على علم ودراسة وخبرة، حتى أنهم كادوا أن يعرفوا عن أقطارنا الإسلامية ما لا يعرفه سكانها عنها، ونحن في حاجة إلى أن نعد منا مستغربين يدرسون أديان البلدان الغربية وثقافاتها وحضارتها، وواقعها، لنبني صلتنا بها على أساس علمي متين، فيكون بيننا علماء أذكياء مستغربون، يؤسسون لعلم استغراب، يتيح لنا الفرصة لمعرفة أحوال هذه المجتمعات، التي نحن اليوم مضطرون للتواصل معها، والأخذ عنها خاصة وأننا قد تخلفنا وتقدموا، كما أننا إن أردنا التأثير في الغرب لنجعل منه مؤيدًا لقضايانا أو حتى أن ندعوه إلى ديننا، فيجب أن نعرف عنه كل شيء، حتى نستطيع أن نعد البرامج التي تقنعه بما نريد، أما إذا كنا نجهل عنه كل شيء، ونتعامل معه من خلال هذا الجهل، فينشأ بيننا وبينه التصادم، ونحن لا نمتلك من الأدوات ما يحسم المعركة لصالحنا، وألا نتهم كل من أراد الاطلاع على ثقافة الغرب وأحواله وحضارته، ونقل منها ما يعتقد أنه يفيد أمته بأنه تغريبي، وهي اليوم في مثل مجتمعنا هنا تهمة تعني أنه يريد أن يصبغ الحياة في بلادنا بصبغة غربية، فيها كما يزعمون الإلحاد والفسق والبعد عن الدين، وهي كلمات تتردد على الألسنة دون تفكير عما ينتج عنها من مظالم، والذي لا شك فيه أن المسلم لا يمكنه أن يستسيغ كل ألوان الحياة الغربية، خاصة ما كان منها متعلقًا بالدين، ولكنه يعجب بكثير مما في الغرب من عدل ومساواة واحترام لحقوق الإنسان، ولألوان من الحضارة المادية، التي جعلت حياة البشر أسهل وأيسر، ولعل في الغرب مما هو مفيد لتطوير الحياة في مجتمعاتنا، أكثر بكثير مما هو ضار بها، والعاقل من يأخذ عن غيره النافع ويدرأ عنه الضار، وهذا منهج العقلاء في كل مجتمع إنساني يهمه المحافظة على هويته الدينية والقومية، وقد نجحت كثير من بلدان العالم في ذلك، وعلى رأسها اليابان ثم النمور الآسيوية، ولم تتخوف من أي ثقافة أجنبية أو حضارة، بل أخذت عنها، وأثرت فيها، أما عندنا فهناك دعاة انعزال، يريدون منا أن ننعزل عن العالم أجمع، بل وأن نكن له العداء، ولهم ضوضاء مرتفعة، مع علمهم أن ما يدعون إليه مستحيل التطبيق في مجتمعاتنا المسلمة التي تتوق أن تكون جزءًا من هذا العالم تتأثر به وتؤثر فيه، فهل ندرك هذا، هو ما أرجوه والله ولي التوفيق.