هل في العالم الإسلامي حاجة إلى صراع أو(مواجهة فكرية) كالذي حصل في الغرب، مع العقل الإسلامي الأصولي كي يصل إلى ما يبتغيه من تقدم؟ هو ذا السؤال الذي استقبلته، ولسنا في حاجة لذلك على الإطلاق، الحاجة قائمة للإصلاح، نحن غير الغرب، الظروف مختلفة، وحقائق العلاقة بين الدين وحياة المجتمع مختلفة، الأصولية المسيحية أمس متغطرسة انعزالية، نحن لدينا اليوم (متمسّحون بالإسلام) دخلاء عليه، جهلة بحقائقه وحقائق الحياة كما قرّرها القرآن وعاشها السلف ونريدها خالية من شوائب الأهواء السياسية والحزبية والإيديولوجية، نحن بحاجة إلى أن يكون المسلم مؤمنا حقيقيا، مسلما في سلوكه، في ظاهره وباطنه معا، إلى أن يفهم دينه، مشكلتنا دخلاء على الدين، متمسّحون به لأغراض سياسية وحزبية تتزيّى بالدين، من كلّ الأطياف التي تتملّق مشاعر المسلم بالدين :شعارات ومظاهر كجسور عبور لمآرب شخصية وفئوية ذات طابع سياسي سلطوي واقتصادي، هذا (الجشع) للسلطة والمال الذي بات هاجس متمسلمين كان من منطلقات أعداء الدين باسمه، ممّن استهدفوا المواطن في أمنه وأمانه وحياته، فاستباحوا دماء الأبرياء وأموالهم وأعراضهم، وقد كان وصفهم في المملكة العربية السعودية (بالفئة الضالة) بسيطا، لكنّه دقيق معبّر عن حقيقتهم وقد ضلّوا طريق الحياة، حياة الدين الصحيح والدنيا الخالية من شوائب الحرام كسبا ومعاشا. الوضع إذن مختلف بيننا وبين الغرب، ديننا دين الحياة، وفي المسيحية رهبانية، حيث اندلع الصراع في الغرب بين كنيسة متجبّرة متغطرسة منحرفة فوّضت نفسها الحق في الوساطة بين الإنسان وخالقه، تهب المغفرة لمن تشاء، وتعلن العفو عمّن تشاء -نيابة ظالمة عن الخالق- فتهب صكوك الغفران، تصادر عقول الناس، لا وسطية فيها، زجّت في العصور الوسطى بالناس في السجون، وأحرقتهم، وأحرقت المؤلفات وهجّرت الرجال، فكان هذا الجوّ كفيلا بحالة التّمرّد الاحتجاجية الداخلية، وحالة الثورات التي أطاحت بها، حتى من داخلها، من كاثوليكيين أنفسهم، ومن بينهم رجال فكر ورأي وفلسفة، من أعلامهم: الكاتب الفرنسي أحد أقطاب الحرية والتحرّر (فولتير) الكاثوليكي، هجّر من بلده، ثم عاد إلى بلده الذي انتصرت فيه الثورة على الكنيسة المعتدية على عقول الناس وعواطفهم، من أجل مجتمع لا يلغي الدين كما يعتقد أدعياء (اللائكية) أي (العلمانية) -كما يقول قوم عندنا - في العالم الإسلامي ،وإنّما ليقمع أولئك الذين أباحوا لأنفسهم موقع الوساطة بين الإنسان وخالقه، هذا الصراع في الغرب كانت له نتائج مثمرة قضب على أدعياء الدين الذين جعلوا من أنفسهم وسطاء فيه وتبعا لذلك قضت على سفهاء السياسة الذين استغلّوا الدين لأغراضهم الدنيئة، فكانت الأثمان باهضة ليتحرّر الإنسان من هيمنة الأصولية المسيحية وإرهابها في حياة الناس الدينية والمدنية. هذه الحركة التحررية نفسها في الغرب: دينيا وسياسيا كانت بفعل المدّ الفكري الإسلامي، السياسي والديني الذي وجد طريقه إلى الأوروبيين عن طريق رجال فكرهم، فأدركوا طبيعة الحياة الإسلامية الرافضة للرهبانية، التي تتكامل فيها الحياة المدنية بالدينية ولا تتصادم، ويعلو فيها صوت العقل داعما للوازع الديني، ممكّنا له، مع اتّساع في الحياة الإسلامية للاجتهاد، وقبول الآخر في المواطنة نفسها، كما عكستها الحياة السياسية في الدولة العباسية والأموية وفي الأندلس بشكل خاص الذي كان من الجسور القوية التي عَبَر منها الفكر الإسلامي إلى الغرب، فنهض بينما شرعنا نسقط بفعل أعداء الإسلام الذين يتزيّون بشعاراته، فأدرك الأوروبي ذلك الثراء في الحياة الإسلامية: سياسيا، وعلميا، ودينيا وأخلاقيا، حيث لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، وحيث المواطنة مكفولة للجميع، وإمكانات الرّقي العلمي والفكري متاحة للجميع في الحياة الإسلامية، لا فرق بين الناس إلاّ بما وصلوا إليه بجهودهم، فاشتهر يهود ومسيحيون، فصاروا العلماء، والأطباء والأدباء، بلغة الضاد، ومنهم الوزراء، وقد ذكر المؤرّخ المغربي الأستاذ عبد الله عنان رحمه الله تفاصيل كثيرة مختلفة في كتابه (دولة الإسلام في الأندلس) من جزأين اثنين، عن هذا الفضاء الإسلامي الذي اتّسع للجميع من دون عصبية، تجعل الجميع يدافع عن مواطنته الإسلامية الأندلسية، كما أورد (عنان) صورا، من بينها صورة الشاعر الإنجليزي سوذي في منظومته عن ردريك آخر ملوك (القوط) المندحر أمام جيش إسلامي من أعراق شتّى، تحت قياد (عبد الرحمن الغافقي) فقال: «جمع لا يحصى من شام وبربر وعرب وروم خوارج وفرس وقبط وتتر، عصبة واحدة يجمعها إيمان، هائم راسخ الفتوة وحمية مضطرمة، وأخوّة مروّعة ولم يكن الزعماء أقلّ ثقة بالنّصر، وقد شمخوا بطول ظفر يتيهون بتلك القوّة الجارفة...... حتى يصير الغرب المغلوب كالشرق يطأطئ الرأس إجلالا لاسم محمد».