وأخيرًا تذكر المجتمع الدولي (أمريكا وأوروبا وشركاؤهم) الصومال وقرر استعادتها لتصبح دولة مثل غيرها من الدول وإنقاذها من الحرب الدموية القاسية التي تعيشها لحوالى عشرين عامًا، منذ سقوط زياد بري آخر رئيس لها قبل حروبها الأهلية.. وكانت الخطوة العملية الأولى في استعادة الذاكرة الدولية للصومال عقد مؤتمر دولي الأسبوع الأخير من شهر فبراير الماضي، دعا إليه رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، وحضرته وفود تمثل خمسة وخمسين دولة ومؤسسة دولية.. وعقد المؤتمر في قصر لانكستر هاوس بلندن، والذي اكتسب في السابق سمعة ترتبط بالمؤتمرات التي عقدت فيه خلال الفترة الاستعمارية البريطانية، حيث كانت تجري صناعة استقلال وتقسيم الدول التي استعمرتها بريطانيا. مؤتمر لانكستر هاوس حول الصومال خرج بحلول لم تكن بعيدة عن خبرة بريطانيا في إدارة مستعمراتها السابقة وتهيئتها للاستقلال.. فالصومال أصبح دولة فاشلة.. ولم تتمكن أي من الحركات المسلحة بمختلف مسمياتها وتوجهاتها أن تنتصر وتحكم البلاد، وكذلك الأمر بالنسبة للحكومة التي أنشئت في مقديشيو، والتي لم تتمكن من فرض سيطرتها سوى على بعض أحياء العاصمة، وبمساعدة القوات الدولية التي توفرت لها.. وخلال هذا الوضع المضطرب نشأت كيانات شبه مستقلة أبرزها دولة أرض الصومال وكذلك دولة بونتلاند. ومن هذه النقطة بدأ مؤتمر قصر لانكستر هاوس، أي أنه لن يكون ممكنًا في ظل الظروف الحالية بالبلاد دعم الحكومة المركزية في مقديشيو لأنها لا تستطيع نشر سلطانها على كل البلاد.. لذا فإن الحل هو التعامل مع الصومال كدولة مؤلفة من عدة أقاليم شبه مستقلة برباط ضعيف مع مقديشيو وتمكين كل إقليم من بسط نفوذه وسيطرته داخل منطقته تمهيدًا لجمعهم مستقبلًا تحت مظلة العاصمة الصومالية في نظام أكثر تماسكًا.. وبالإضافة إلى ذلك فإن المؤتمر قرر أن يتولى المجتمع الدولي تنفيذ برنامج إعادة الصومال الجديد. ومن بين قراراته إنشاء مجلس مشترك لإدارة الشؤون المالية، سيضم موظفين صوماليين وأجانب، وذلك حسبما ورد في البيان الختامي للمؤتمر لضمان «الشفافية والمسؤولية في جمع العائدات العامة (بما فيها الضرائب والجمارك والرسوم) وحسن استخدامها، وكذلك المساعدات الدولية التي تستهدف التنمية» وقال البيان إن المجتمع الدولي سوف «يحفز التقدم ويعمل ضد الذين يفسدون عملية السلام» وكان مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قد صوت قبل انعقاد المؤتمر بيوم واحد لصالح زيادة عدد قوات حفظ السلام الإفريقية من اثني عشر ألفا إلى سبعة عشر ألف وتمديد فترة عملها مما سيؤدي إلى حماية التمويل الذي سيأتي للبلاد بالإضافة إلى دخول القوات الأثيوبية والكينية إلى أجزاء من الصومال للتخلص من مقاتلي حركة الشباب. خلال السنوات الأخيرة أصبح الصومال يشكل صداعًا إرهابيا للعديد من دول العالم، واعتبر مع اليمن وكذلك باكستان مركزًا لتدريب وتأهيل الجماعات الإرهابية (الإسلاميون المتطرفون) الذين يجري أعدادهم للقيام بعمليات إرهابية في أوروبا وأمريكا، وبالفعل اكتشفت خلايا في عدد من المدن الأوروبية والولايات المتحدةالأمريكية لجماعات إرهابية تدربت في أحد هذه البلدان الثلاث.. وبسبب عمليات القرصنة الصومالية فإن التقديرات الغربية تشير إلى أن ذلك كلف حركة التجارة العالمية حوالى عشرة بليون دولار من أموال الفدية ورسوم التأمين العالي والصفقات التجارية الملغاة وتكلفة الإبحار باستخدام خطوط أطول عبر رأس الرجاء الصالح عوضا عن البحر الأحمر وقناة السويس. لقد جرت أكثر من خمسة عشر محاولة سابقة لإحلال السلام في الصومال (بعضها قامت بها السعودية) ولم يتم تحقيق السلام في البلاد، لذا نجد المجتمع الدولي يقرر أخذ الأمور بيده ويقرر فرض نوع من الوصاية الدولية على البلاد.. وقد تكون هذه تجربة يراد بها، بالإضافة إلى إحلال السلام في الصومال، إرسال رسالة إلى الجار غير البعيد وهو اليمن، الذي تتكاثر فيه التجاذبات وتسيطر قبائل على بعض المناطق فيه، وتستمر سلطة العاصمة ضعيفة على أجزاء كبيرة من البلاد، بأن المجتمع الدولي لن يسمح بمواصلة التناحر بين الجماعات المختلفة لفترة طويلة، وأنه إذا لم يتمكن أهل البلاد من حل مشاكلهم والتوافق على الحد الأدنى من القرارات التي تضمن وحدتهم وأمن مواطنيهم وتحرم الإرهابيين من استخدام أراضيهم كمراكز تدريب أو انطلاق فإن المجتمع الدولي سيفرض الأمر، باستخدام الوضع القائم فعلًا بتقوية مراكز القوى والتعامل معها بما يراه مصلحة عامة من وجهة نظره. الملفت للنظر في مؤتمر قصر لانكستر هاوس أن أكثر من أربعة رؤساء صوماليين حاليين حضروه، أحدهم رئيس الصومال والآخرين لبونتلاند وأرض الصومال وغيرهما.. بما يدل على اعتراف دولي بالأمر الواقع، وأن أمراء الحروب يمكنهم أن يشكلوا دويلاتهم، حيث تعشعش الفوضى في أي بلد، ويكسبون الاعتراف والدعم الدوليين متى ما أظهروا أنهم قادرين فعلًا على تحقيق الأمن في مناطقهم وحكمها بطريقة مقبولة نسبيًا وطرد الدخلاء منها، وإقفال كل معسكرات التدريب فيها، وحرمانهم من حرية التنقل عبرها. نقطة أخيرة حول الصومال.. فقبل المؤتمر بفترة قصيرة قام وزير الخارجية البريطاني بزيارة مفاجئة إلى مقديشيو، وتقول صحيفة (الاوبزرفر) البريطانية أن هناك مشاورات تجري بين المسؤولين البريطانيين والصوماليين حول التنقيب عن البترول في العديد من مناطق الصومال ومنها (بونتلاند) حيث تقوم فعلا شركة كندية (أفريكا أويل) بالتنقيب عن البترول هناك والتي من المتوقع أن يبدأ أول إنتاج لها خلال فترة قصيرة وتقدر هذه الشركة البترول المتوقع إنتاجه في منطقتين خصصا لها بما يقرب من أربعة مليارات برميل وتسعى شركات صينية وأمريكية كذلك، الحصول على حقوق تنقيب، وحصل بعضها فعلا على ذلك، وتتوفر في الصومال ثروات طبيعية تشمل البترول والغاز واحتياطي ضخم من اليورانيوم.