تحدثت في مقال الأمس عن منشأ فكرة الصهيونية، وقلت بأنها فكرة استعمارية وظفت الدين اليهودي للترويج لمشروع سياسي يهدف إلى خلق دولة تقوم بحماية مصالح المستعمر في المنطقة. ولقد ساعد على ترويج الفكرة صعود نجم الأحزاب والحركات النازية والفاشستية في أوروبا عقب نهاية الحرب العالمية الأولى. ما أريد أن ألفت النظر إليه، هو وجود فارق كبير بين اليهودية كمعتقد ديني، وبين الصهيونية التي وظفت المعتقدات الدينية اليهودية وتحايلت لإيجاد تفسيرات لها تنسجم مع طبيعة المشروع الاستعماري الذي ابتكر الصهيونية. دولة إسرائيل ليست إلا مخلبا استعماريا، وهي لم يكن لها في يوم من الأيام ورغم كل مظاهر القوة والنفوذ الظاهرة للعيان، قرارا مستقلا عن راعيتها وحاميتها أمريكا. وكل من يراجع تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي ويتوقف أمام المحطات المهمة فيه، سيتأكد بأن الإسرائيليين لم ينفردوا باتخاذ قرار واحد دون موافقة الأمريكان. حالة الالتباس التي حدثت للكثير من المواطنين العرب أدت إلى الخلط بين الصهيونية واليهودية. والحقيقة أن هناك الكثير من اليهود الشرفاء والأحرار الذين عملوا على فضح الكيان الإسرائيلي وارتباطه العضوي بالاستعمار. المسألة لا تقتصر فقط على بعض اليهود العلمانيين، ولكنها تشمل أيضا بعض الحركات اليهودية التي لا تؤمن بشرعية وجود دولة إسرائيل من منظور ديني صرف. من هذه الحركات منظمة (ناطوري كارتا) التي تأسست في العام 1935، أي قبل قيام دولة الكيان الصهيوني بثلاثة عشر عاما. يؤمن المنتمون إلى هذه الحركة الدينية والذين يتجاوز عددهم خمسة آلاف، أن اليهود يجب ألا يقوموا بالثورة على الشعوب غير اليهودية التي منحتهم مأمنا ومأوى، كما هو الحال مع الدولة العثمانية التي سمحت لهم بالوفود والإقامة في فلسطين. كما تسعى الحركة إلى مقاومة الهجرات الجماعية إلى فلسطين. وفيما يخص مسألة شكل الدولة في فلسطين فقد صرح غير مرة، الحاخام يسرول دوفيد ويس زعيم الحركة: (إن الصهاينة يستغلون مسألة الهولوكوست لتحقيق أهدافهم. نحن اليهود الذين قتلنا في المحرقة يجب أن لا نستغلها لتحقيق مآربنا.. ما نريده ليس فقط الانسحاب إلى حدود 67 بل عودة الدولة كاملة إلى حكم الفلسطينيين، ونستطيع نحن أن نعيش معهم). الصراع العربي الصهيوني هو صراع ضد الاستعمار وليس ضد الديانة اليهودية. [email protected]