يرمز وجود الكتاب إلى أبعد من كونه للقراءة فحسب، إذ يحتمي بالكتب من يعتقد أنه بمجرد جمعها واستظهار عناوينها سيقي نفسه من ألم الجهل، وربما يرقى به ما جمعه إلى مصاف المثقفين، كما يتخذها آخرون أثاثًا ورئيًا وزخرفًا ليتمتعوا مزهوين بما يبعثه إحاطة الكتب بالمكان من كل جانب، تماما كما حدث في القرن الرابع عشر، حيث كان اقتناء الكتب في أوروبا آنذاك دلالة على الوضع الاجتماعي. إضافة إلى ما تمنحه أغلفة الكتب الجدارية من شعور بالإعجاب لمن يحبذ حضور الكتب وراء صورته التذكارية، ناهيك عن تلك البرامج التلفزيونية المقامة بين الكتب، لتوهم المتلقي أنه يستقبل الحكمة من مضانها وتأتيه المعرفة من حيث يجب، فالكتب تمارس الإغواء وتغري في رسم صورة زائفة لا تتماس مع الواقع ولا تحكي حقيقة ما يجري. حقيق أن جمع الكتب عمل محمود، ولكنه بحد ذاته لا يقود إلى المعرفة، ومع اقتراب المحفل السنوي للكتاب الذي تكون إطلالته عيدا للولعين بالكتب والباحثين عما يشبع نهمهم لحول كامل ويكفل لشبقهم موطئًا خصبًا، إلا إن كثيرا يولون وجوههم شطره بغية التباهي بما اقتناه أو رغبة بأن يكون في قلب الحدث، كمن يذهب مرارا للحج ليضفي الألق على سيرته الذاتية. يعضد الشاعر آوسنيوس (بوردو 310-395م) الرفض للجمع العبثي للكتب والغير مثمر إذ يقول في نص ساخر: ها قد اشتريت كتبا وملأت رفوفا هل يعني هذا أنك أصبحت عالما؟ إذا اشتريت الآن وترية وقيثارا وريشة عازف فهل تظن أن عالم الموسيقى سيصبح ملك يديك؟ لا ريب أن جمع الكتب من الأهمية بمكان لمن أراد رقيا، وملحة للباحثين وإن لمجرد اقتباس سطر أو أقل، أو حتى لمن يعتقد أنه قد يحتاج إليه مستقبلا، بل أبعد من ذلك حيث الدهشة، إذ نلفي بورخيص قد انتابه شعور بالحزن حينما وقف أمام كتاب لا يستطيع شراءه - رغم اعتقاده بأنه قد يموت دون أن يتمكن من قراءته-، وذلك لوجود نسخة منه في مكتبته. أخيرًا.. فإن المعرفة لا تشفق بمن يعبث معها ويتلبسها مخادعا الآخرين، لأنه حتما سينكشف ذات محك، وكلما تقدم السير ضاقت السبل، ولات ساعة ملجأ حين لا يقدر الإنسان معرفته حق قدرها ومن ثم يتعجل الخوض علنا في مسائل تتطلب الدراية والأساس المعرفي الصلب، ولأن «الثقافة تعني البطء»، فلا مناص من الترقي في سلالمها والسير في دربها بإيقاعات محسوبة. بقي أنه حين المواءمة بين المكان والكتاب لحد الشعور بالسكنى والألفة المفضية إلى استكناه ما يحتويه ومحاورة أفكاره والإفادة منه، فثمة المعرفة. (*) جامعة جازان/ يحضر لنيل الماجستير