لا أعرف إن كنت قد وصلت متأخرًا أم لا... أغلب الظن أننا نستخدم مقولة خادعة وبليدة على الدوام: "أن تصل متأخرًا، خير من ألا تصل أبدًا". الوصول المتأخر عار على صاحبه: يكون قابعًا في زاوية ما، ينتظر علاجًا سحريًا لمعضلة الزمن، ليستطيع أن يردم به هوة سحيقة من السنوات الضائعة... يكون الجسر قد تحول إلى (جسور)، والنهر صار أنهارًا، والذين ركبوا في أول المراكب الراحلة، قد أوشكوا على الوصول، فيما هو لا زال يتعلم أبجديات التجديف. استوقفني صاحب مقهى جسور، الشاب الرائع محمد جستنية... قال لي بلطف شديد: لقد درستني في الصف السادس الابتدائي، في منتصف التسعينيات من القرن المنصرم!! أوشكت أن أقول له: وأنت تدرسني الآن، في بداية العشرية الثانية من القرن الجديد!! نعم... أنا تلميذ جديد في مدرسة جسور. ليس هنالك من طاولات وسبورة وطباشير، ولكنه أفق يأخذ إلى البعيد، وجسور تقود إلى المستقبل، وتحرض على السفر... شباب وشابات وكتب ورفوف وأحاديث... ينظمون على استحياء وبحذر شديد (بعد أن داهمت الهيئة جسورهم وكادت تقطع الرحلة بين الضفتين) معرضًا للكتب المستعملة... تقليد جديد ومباغت في بلد يقوم على الاستهلاك أساسًا. وقفت إلى جوار أحدهم. أشرت إلى رواية مهمة، وقلت له: هل قرأتها؟ حين أجاب بالنفي، استعرت أبوة ما، واقترحت عليه – أنا الرجل الاستهلاكي – أن يشتريها. حملها في يده مجاملا وانصرف... فيما بعد، وعن طريق الصدفة، عرفت أنه عاطل عن العمل، وأنه لا يحمل حتى ثمن النسخة المستعملة من الرواية التي اقترحتها عليه، برغم أن تغريداته على التويتر تحظى بمتابعة الآلاف. حسنًا: سيقرؤها إذا بقيت في المكتبة، فهو لا ينقطع عنها، ولا يكلفه الأمر أكثر من ثمن القهوة التي يحتسيها. سيقرؤها إذا وجدها لدى صديق. سيقرؤها مصورة على جهاز الكمبيوتر... سيقرؤها حتى لو لم يقرأها، لأن الجوع إلى المعرفة، أهم من المعرفة ذاتها. "أن تصل متأخرًا، خير من ألا تصل أبدًا"... يا للعبارة السخيفة والمضللة!!