في فناء المدرسة رأيتها تذرع المساحات ذهابًا وإيابًا، الخطى متعثرة، والقسمات ظللتها مسحة من الحزن والألم واليأس في آن واحد، تملّكني الفضول وتوجهتُ إليها لأسألها عن حالها، رمقتني بابتسامة دامعة تخفي خلفها معاناة وهمِّ تنوء عن حمله الجبال ثم تنهّدت وقالت: خليها على الله يا أستاذة، لم أقوَ حينها على استكمال الحديث معها، فكل ما فيَّ كان مشوشًا، ولا أعلم لِمَ فقدت القدرة على التخفيف عنها، ولُجِم لساني عن الكلام إلا من ترداد.. على الله.. على الله. بعدها انهالت على رأسي التساؤلات كالمطارق.. كم؟ وكم؟ وكم؟. كم من أيامٍ تمر على الإنسان ذاق فيها مرارة الغُبن والقهر؟، وكم منا من يملك القوة واستطاع أن يقاومها ويتغلب عليها؟. وكم منا من لا حول له ولا قوة.. تملك اليأس منه وأحكم قبضته على سكناته وحركاته فاستسلم له حتى سحق إنسانيته، ولم يعد بيده حيلة إلا أن يتقوقع داخل نفسه ويقبع خلف أسواره. حين يُلقي ذاك الشعور البغيض بثقله على خارطة مداخل حياتنا ومخارجها، ويطبق على أنفاسنا.. عندها يختنق البوح في الحناجر، وتتحوّل الحياة بكل ما فيها إلى ندوبٍ معتمة تطفو فوق سطح الأيام، لتعبث بنا تفاصيل أشياء الأشياء وتكسرنا. كم هو قاسيًا عندما يعبث الجَورُ بحياتنا ويرمينا في دوائر الأيام القاحلة، فيمطرنا جدبًا ويسقينا جدبًا ويروينا جدبا. كم يكون الحال أشد قسوة علينا حين يخضِّب اليأس أرواحنا، ويحوّلنا إلى مخلوقات تتنفس ظلمة حالكة وخيبات إثر خيبات، وكم يكون الحال أشد إيلامًا عندما تضيق في دروبنا منافذ الأمل، وتخفت قناديل النور، وتتلاشى أمام أنظارنا الألوان ولا نعد نرى منها إلا اللون الأسود، وشيئًا فشيئا يصبح جزءًا.. بل كلًا من سماتنا. مرصد.. - دعوة المظلوم التي تحمل على الغمام وتُفتح لها أبواب السموات ويقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي لأَنْصُرَنَّكِ ولو بعد حين).