(1) قبل سنوات قليلة - ومع بداية الإنترنت - قالوا: العالم أصبح قرية. وبعدها بفترة قصيرة صار العالم: غرفة صغيرة، مفتاحها في يد ولد مراهق يمتلك الكمبيوتر المحمول! الآن.. يحق لي أن أقول: العالم، في جيبي، وجيبك.. وتحديداً في هاتفك المحمول، والذي يحتوي على حسابك في «تويتر» وصفحتك في «الفيسبوك». (2) هذه الأجهزة الذكية الصغيرة.. لم تأتٍ لوحدها.. أتت ومعها (أخلاقها) وعاداتها الجديدة، فكل (آلة) ومهما حاولت أن تطوعها، وتعربنها، أو تسعودها، إلا ويبقى فيها شيء من (روح) وأخلاق مبتكرها.. وبعد فترة تفرض عاداتها الجديدة: قبل أن تعرف منازل مدينتنا الصغيرة الهواتف الأرضية كنا ندور المدينة - في العيد - لمعايدة الأهل والأحباب، بعد الهواتف صرنا نكتفي بالاتصال و(سماع) أصواتهم، بعد الجوال - حتى الصوت لم نعد نسمعه - صرنا نكتفي ب»رسالة»! هذا مجرد مثال لما تفعله (الآلة) بنا، ويتسرب إلينا دون أن نشعر به. (3) الآلة التي بين يديك، لم تنتجها أنت، ولا ثقافتك.. أتت من ثقافة مختلفة، ومن مجتمع تراكم لديه الوعي والمعرفة على مدى سنوات. كانت (الآلة) لديهم: نتيجة. ولديك أنت: لا تدري هل هي (نتيجة) أم (سبب) أم مجرد (شيء) تستطيع أن تحصل عليه بأموالك! ومثلما حدث معك - معنا - في الطفرة الاقتصادية، يحدث الآن في الطفرة التقنية، ونظن أننا، وبفضل الإنترنت وما قدمته من إعلام جديد مُتاح للجميع، أننا نعيش (طفرة الحرية): نتحدث بحرية، ونشاكس، ونشاغب، ونصور، ونفضح، ونطالب، و.. ونقوم بممارسة الكثير من (الضجيج) الحر.. علانية أحيانا، التتمة ص(17) وفي الغالب خلف الأسماء المستعارة. هذه ليست «حرية»!.. الحرية ليست طفرة. الحرية: تراكم من المعرفة والوعي بحقوقك. الحرية: حضارة. الحرية: أخلاق ومبادئ. الحرية: لا تهبط فجأة عليك (مع الآلة أو دونها).. بل هي تتشكل في داخلك على مدى سنوات، وقراءات، وتجارب. الحرية: أن تعي، وتستوعب، أن لكل إنسان الحق بالاختلاف عنك ومعك، وتحترم هذا الاختلاف. انظروا حولكم، تابعوا ما يحدث في الفضائيات وعبر مواقع الإنترنت وتحديداً مواقع التواصل الاجتماعي، ركزوا على اللغة المستخدمة في الحوارات.. ليس لدى العامة فقط، بل لدى النخب أيضاً: هل هذه لغة حرة؟.. هل ما يجري حولك حوار حر؟.. كل ما يحدث في عالمنا الواقعي نقلناه إلى عالمنا الافتراضي (الحر) نفس العيوب، ونفس الشتائم، ونفس اللغة الرديئة، ونفس النظرة المرتابة من الآخر ومن أي فكرة مختلفة. ببساطة، هؤلاء: أبناء (طفرة التقنية).. وليسوا أبناء الحرية! كل ما في الأمر أن: التكنولوجيا تخدم التخلف كما تخدم التقدم. (4) عندما تكون لديك صفحة في الفيسبوك أو حساب في تويتر وتثرثر عبرهما بحرية (كما تظن) فهذا لا يعني أنك إنسان حر يعي ما هي الحرية وما هي مسؤولياتها والتزاماتها.. كل ما في الأمر أن الحضارة الغربية منحتك (حائطاً إلكترونياً) واكتشفت أنك بإمكانك أن (تشخبط) عليه، وهذا ما تفعله! أنت ابن (طفرة التقنية).. وهذه لا تختلف كثيراً عن (طفرة النفط) التي أصابت والدك، وشوّهت صورته وهويته، ومنحته عيوبها وهزاتها الاجتماعية، وشوّهت روحه دون أن يشعر.. فانتبه، انتبه يا رعاك الله، أن تخرج من طفرتك كما خرج والدك من طفرته: الكثير من الإمكانات.. القليل من الإنجازات! (5) الآلة لن تمنحك الحرية.. ولكنها تحتفي بها، وبك عندما تكون حراً. كن ابن الحرية.. قبل أن تذهب إلى المنبر.