ظاهرة التصدي لتفسير الرؤى والبروز لها والتخصص فيها، وجعلها من أبواب الكسب والتكسب واستنزاف جيوب النائمين الحالمين؛ ظاهرة حادثة في الأمة ولا شك، فمنذ متى كان المُعبر -بضم الميم- يجعل لكل رؤيا يُفسِّرها رسمًا ماليًا يُدفع مقدمًا من خلال تلك الأرقام الهاتفية التي يشترك فيها مع شركات الاتصالات وتلك القنوات؟! ومنذ متى كان علماء السلف يَتخصَّصون في تفسير الأحلام ولا غير، بل يفتحون لها الدروس والمعاهد الخاصة ويعقدون لها الدورات؟! منذ متى كانوا يُعبِّرون كل منام دون تفريق بين الأضغاث والرؤية؟ على أي دليل أو قاعدة شرعية يعتمد هؤلاء في تكسبهم وجعلهم هذا العلم الشريف أعني: علم تفسير الرؤى مصدرًا للتكسب والمتاجرة؟! هل لديهم دليل أو شبهة دليل أو إثارة من علم علموه ولم نعلمه حتى يتحفونا به؟! إن رؤيا المؤمن - وكما صح فيه الخبر سيد البشر - جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة، وتأويل الرؤى علم وفتوى قال الله على لسان صاحب يوسف (أفتوني في رؤياي) وهذا العلم من علوم النبوة، قيل لإمام المدينة مالك رحمه الله: أيفسر الرؤيا كل أحد؟ قال: لا؛ أيلعب بالنبوة؟! والمتتبع لبرامج هذه الرؤى يجد أمورًا عجيبة بعضها يخالف الشرع والآخر يناقض العقل! فتعبير الرؤى على القنوات في اتصالات مباشرة؛ والمُؤوِّل لا يعلم عن الرائي وحاله شيئًا، إلا نزرًا من كلمات مضطربة أشبه ما تكون بالكلمات المتقاطعة! هل هو منهج شرعي وأسلوب صحيح؟! وهل ترسيخ ثقافة (الأحلام والمنامات) في المجتمع من العقل والمنطق والأهمية في شيء؟ والمعبر العظيم لا يرد سؤال سائل فيعبر كل منام دون التنبيه على نوعه هل هو رؤيا أم حلم وأحاديث نفس أم من تنغيص الشيطان! ويأخذك العجب والضحك والغيظ أحيانًا من مفسري القنوات وهم يسألون تلك الحالمة - بالتأنيث لأنهن الأكثر في هذا المهيع - عن أسئلة عامة تصلح لكل أحد! من قبيل: هل تنتظرين حدثا مهما؟ هل أنت موظفة؟ متزوجة؟ حتى يكون الجواب كالتالي دائما: إن كانت غير متزوجة بادر المُعبِّر بكل حماس بتبشيرها بالزواج! وإن قالت أنا متزوجة بشّرها بحل مشكلاتها مع زوجها! وإن كانت موظفة فالتأويل جاهز وهو (الترقية) وإن كانت عاطلة فالتأويل طبعا سيكون (الوظيفة) وهكذا. يمضي المُعبِّر ليجيب على أكبر قدر من الاتصالات: أسئلة عامة وتفسيرات عامة يمكن تحققها مع أي أحد يغلف ذلك - إرضاء للنفس وتطييبا للمكسب - بشيء من النصيحة بتقوى الله والإكثار من الاستغفار! ثم يتفرغ المُؤوِّل لذلك الكم الهائل من الاتصالات على جواله العام والخاص (بأصحاب المنامات) مقابل رسوم مالية تدفع لمزيد من التأويل وبطبيعة الحال مزيدًا من النائمين والمنامات! إن سبب هذا التكالب على تفسير المنامات والاعتماد عليها في التعبد والحياة من قبل كثير من الناس سببه: البعد والغفلة عن المنهج النبوي السليم والذي أرشد كل مسلم ومسلمة للتصرف الشرعي المبارك والمطمئن والمتعقل فالمسلم إن ظهر له أن ما رآه في منامه رؤيا وليست حلمًا أو أحاديث نفس؛ فوجد ما يسره فليحمد الله ولا يخبر - إن شاء - إلا من يحب، وإن رأى ما يكره استعاذ بالله وتفل عن يساره ثلاثا ولا يخبر أحدًا ولن تضره، أرأيتم كيف هو سهل ومريح هذا الأدب النبوي، وكيف ابتعد الناس أو أبعدوا ببركة هذه البرامج عن هدي النبوة؟ إن تأويل الرؤى علم شريف يهبه الله من يشاء (فتحت الآن أكاديميات لتعليم التعبير!!) لا يحسنه أي أحد وله أصوله وضوابطه وطلب التعبير لا يلزم في كل منام أو رؤيا، والرؤيا إن لم تعبر فلا إشكال بل هذا هو الأصل في ظني والله أعلم وهو ظاهر أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر العام من هديه الكريم. لذلك يجب على أولي هذا الأمر من العلماء والدعاة وأهل الحسبة أن يجتهدوا في رد المجتمع للسنة ردا جميلا وأن ينصحوا -هؤلاء المُعبِّرون- بالتخفيف من هذه الظاهرة وكذلك عليهم -وفقهم الله- الحد من التلاعب بجناب هذا العلم الشريف وتعظيم هيبته في النفوس بالنصح والإرشاد.. وأن تظل المنامات في إطارها الشرعي والطبيعي فلا يُتّكل عليها في عمل ولا تتوقف الحياة من أجلها.. ومن وسائل منع برامج تعبير الرؤى الفضائية لما ذكرته من محاذير وغيرها مما لم أذكره، وأخيرا: إن العلم أمانة وشرف ولا ينبغي أن يبتذل بهذه الطريقة، وأن يراجع إخوتنا المُعبِّرون طرائقهم ووسائلهم، وفقهم الله للحق، وغفر لنا ولهم، وأحلام سعيدة بإذن الله.