هنا لا نعالج عملًا واحدًا بعينه، كما أنّ المكان لا يتّسع لتناول كلّ عمل بشكل مستقل، لذا سأكتفي بوصف عام لجميع أعمال المعرض مركّزا على الأساسيات، ولو أن في هذا ظلمًا لبعض الأعمال التي تخرج خصوصياتها عن إطار الوصف العام. الأعمال: «بورتريهات» ضخمة، مربعة الشكل، أضلاعها بين 150 و 170 سم. العناصر: عنصران أساسيان، خلفية العمل والوجه الآدمي الأنثوي. الموضوع (Subject): «فيزيونوميا» الوجه (physiognomy) «الثيم» (Theme): العالم الإنساني المخفي خلف الشكل الخارجي، المثقلة به أرواحنا، ومحاولة ولوجه بلغة محسوسة غير محكيّة. التقنية: خاصة بالفنان، تراكم الطبقات اللونية ثم معالجتها بالحكّ وبالفرش وبالسكين وباليد المجرّدة. الخامات: ألوان أكرليك على القماش المشدود. جميع الأعمال تُظهر الوجه فقط، كلّها وجوه نسائية، اختُزلت تفاصيل ملامحها لصالح حضور العيون وبروزها فسادت العمل برمّته. في بعض الأعمال اعتُنِيَ أيضًا بالحواجب وأسفل الأنف والشفاه، مقابل تنحّي باقي التّفاصيل التشريحية، خاصة الكتلة العضلية التي تحدّد السّحنة والقَسَمات. الخلفيات مساحات واسعة من الألوان غير المشبعة المنحدرة عموديًا من الرمادي نحو الأسود، تعكس مسارها فجأة من الأسود نحو الرمادي فالأبيض دون ملامسته، التباين الفجائي الناجم، يجعل اللّون الأقلّ إشباعًا شديد القوة والحضور. تنقشعُ الكتلُ اللّونية عشوائيًا هنا وهناك، فتتسلّلُ وُشُحٌ من الألوان القليلة المحدودة خاصة الأحمر والبنيّ، كبقعٍ مشبعةٍ وسط محيطٍ من الألوان القاتمة غير المشبعةِ، مُشعة، غامضة غموضًا مثيرًا للفضول، ملفتة جاذبة، كأنّها نوافذ ضيّقة نحو عالم خلفي. * قراءة وتعليق: سأنطلق من ثلاثة أمور لنقف على خط بداية فهم تجربة الفنان أحمد حسين، المتّصلة المتواصلة والتي لم تكتمل بعد. الأمر الأول: بمراجعة تاريخ فن «البورتريه»، لا نجده بين ما وصلنا من رسومات جدران الكهوف من حقبة ما قبل التاريخ، ربما لأن الأفراد كانوا على نفس الدرجة من الأهمية! أو ربّما انشغلت المجموعة بأمور عامة تجاوزت أهميّة الفرد! يَظهرُ «البورتريه» في الحضارات القديمة مقتصرًا على الشخصيات الأكثر أهمية، الآلهة والملوك، كلّما اقتربنا يتسع «البورتريه» ليشمل تدريجيّا الشخصيات الأقل أهمية، الأمراء والقديسين وقوّاد الجيوش، والكهنة، ثم النبلاء فالأغنياء فالفنانين الذين رسموا أنفسهم، إلى أن تفجّرت الثورة الصناعية فانقلبت القيم الاجتماعية والمرجعيات رأسًا على عقب، برز الفرد وسادت ثقافته، فتعمّم فن «البورتريه» حتى أصبح كلّ فرد في المجتمع موضوعًا محتملًا، مع ولوج منتصف القرن التاسع عشر، التاريخ الذي انقلب عنده الفن على المفاهيم السائدة، انطلق الفن الحديث حرًّا. لم يكن التّوازن بين الشخصي (الذّاتي) والعام قائمًا، ظلّ الميزان مائلًا لصالح العام، كلما اقتربنا من لحظة تفجّر الفن الحديث، يفرض الفرد نفسه ويعيدُ موازنة العلاقة لصالحه، إلى أن أصبح الذاتي هو الموضوع الأبرز في فن «البورتريه» وفي الفن عمومًا، براعة الفنان تكمن في تقديم الذاتي بقِيَمٍ فنية وجمالية تُجبرُ الجماعة على القبول والاستمتاع. تجربة الفنان الغامدي في سياق التاريخ لفن «البورتريه»، وللفن عمومًا، قد يُظنّ أن الفنان يعرض أعمالا كإرهاصات شخصية مفرطة بالذاتية، تنبعُ من تجاربه وتاريخه الوجداني، وعليه قد يجنح البعض لتسطيح العمل على اعتباره خفيفًا، لا يعالج قضايا إنسانية عميقة ذات قيمة جمعية. هذا الاعتقاد في الاتجاه الخاطئ، مردّه الذائقة الفنية المبنية على مفاهيم وقِيَمٍ تتجاهل مفهوم الذاتي في الفن الحديث والمعاصر، وتشدّ الفن لعالم غير حقيقي، كان قبل منتصف القرن التاسع عشر ولم يعد قائمًا في عالمنا المتسارع. السؤال الذي يجب طرحه، هل نجح الفنّان الغامدي بتقديم الذاتي بقيم فنية وجمالية تجعل أعماله تلامس قضايا ذات أهميّة جمعية؟ نقول نعم، بل برع في ذلك: استطاع تسخير الكُتَلِ البنيوية والتشكيلات اللونية في العمل من أجل إبراز العيون، فجَعَلَها تسودُ المشهدَ في وضعية تكون فيها عالية الجهوزية والفاعليّة، فتنطلق «النظرة» التي تستحوذ على المتلقي بعد أن تحوّل العمل الفني كله لرأس رمح مسنّن يخترقنا. من منّا لم يجمع الخبرات الشعورية مع هذه النظرات الأنثوية الخارقة، الغامضة، المثيرة التي تلهبُ كوننا من الدّاخل؟! قد لا نستخدم الكلمة في هذا التواصل، ولا نأتي على أي فعل، بل نتلقى النظرة وحسب، فتَتَخلّلُنا، نحفظُها فينا بين ركام الأيام وأكوام الذكريات المتداخلة، قوية مشتعلة كجمرات تضيء كلّما ذرّت رياح الوجد رمادا ثقيلا فينا، فأزاحته لتتوهّج من تحته العيون الأنثوية جمرات.. جمرات.. من منّا لا يحفظ خلف ضلوعه هذه الجمرات؟ من منّا لا يستقي الطاقة منها فتثير فيه سيولًا من مشاعر حلوة مرّة موجعة غامضة نلهثُ لنعيدها ثم نعيدها ثم نعيد؟! لا نستطيع المكابرة فننكر كل تاريخنا الشخصي، فنستهجن ذاتيّة الفنان ونحن شركاء في الحيرة والوَجْدِ وكيّ الجمرات!! الثاني: قد نعتقد للوهلة الأولى أن الغامدي خرج عن خطه الذي انتهجه منذ ما يزيد عن عشر سنوات، في خضمّ حيرة البحث عن أسلوب يقدّم به إبداعاته، رغم عدم استهجاننا للأمر كحق طبيعي للفنّان، إلا أنّنا بمراجعة أرشيفه، وجدنا أكثر من عمل، بعضها يعود لعام 2000، تتطابق مع أعماله الحالية، وجه الخلاف يكمن في حجم الأعمال والكتل اللونية، تلك كانت أعمال صغيرة نسبيًا وهذه أعمال ضخمة، هناك استخدم ألوان مشبعة فاتحة، وهنا ألوان غير مشبعة قاتمة. ما يؤكد لنا أن الفنان ما زال يُعمّق ذات التجربة، ويصقلُ ذات الأسلوب. ما يميّز أعماله الحاليّة تطويره لتقنياته التي أوضحت الآن بأن تجربته الفنية تنصبّ منذ البداية على محاولة الولوج إلى عالم ما وراء الأشكال، مكرّسًا كلّ طاقة حدسه المعرفي في البحث عن حقائق جديدة تساعده في ملامسة جوهر الأشياء.. هل هو في حيرة أمام تساؤلاته الداخلية؟ نعم، هل يبحث عن منفذٍ يلجُ منه إلى الماوراء؟ نعم، لكنه صلبٌ وثابتٌ في مسعاه، متمكن من أسلوبه وتقنياته، لا يبدو على وشك الّتّخلي، إذ ما زال يُجسّد على القماش نفس الغمامة اللّونية التي تقف عائقًا أمامنا، حاجبة جوهر الأشياء، يحاول اختراقها بحدس معرفي مرهف وجريء، فتنقشع أمامه هنا وهناك، تاركة فَتَحات كالنّوافذ في الجدار، نندفعُ منها مبهورين فضوليين للارتواء من معين الحقيقة، التي تهيأ لنا أنها تكاد تَنْكَشفُ، فنَكْتَشِفُ ضيق النوافذِ فنرتَدُّ، نتأمّلُ حدّ الإنهاك، يُغالبنا اليأسُ، فنبدأ تركيب ما ظهر لنا من أشكال، نخمّن، لعلها كذا أو كذا، هذه حلاوة لعبة التجريد بين يدي الغامدي. بالأمس كانت الغمامة زاهية الألوان مشبعة، تتراكم طبقات فوق القماش، واليوم ألوان غير مشبعة قاتمة، تتراكم بنفس الأسلوب، اكتَشَفَ الآن أن حكّها ومعالجتها باليد المجرّدة وبالسكين، يُعَتّقُها ويُصَدّعُها دون أن تنْهار، فتكتسبُ بُعدًا جديدًا زمانيًا، لأول مرة يظهر الزّمن في أعماله على هيئة شقوق وتصدعات، يحوّل الغمام إلى ما يشبه لحاء شجرة هَرِمَتْ فتصدّع لحاؤها، لكنه ظل عالقا بالجذع كحراشف السّمك، لا يسقط ولا يكْشف عن ما خلفه، بل يُظْهّرُ لنا أنياب الزّمن.. الثالث: في معرض شرحه عدم قدرة الأشكال والعناصر التي يستخدمها الفنانون على منحهم حرية وإرادة التعبير، قال زعيم السوريالية أندريه بريتون: «من منّا لا يعرف الوجه الآدمي؟!»، نافيًا بذلك قدرته على منح الفنان ما يحتاجه، مُفْرِغا إيّاه من قابليته ليكون موضوعًا للعمل الفني. على النّقيض كان صديقه البيرتو جياكوميتي، يُكرّس مفاهيمه الوجودية فيقول، كلّما اقتربت من الوجه الآدمي ازددت جهلًا به، إذ يزداد غموضًا، فالوجه شيء لا يمكن معرفته، مُعتبرًا إيّاه موضوعًا لا ينضب للعمل الفني. بالمقابل كان أندرِو ويث يرسم أحجاما ضخمة من «البورتريهات» مكوّنة من الرأس فقط، مُركّزا على الوجه باحثًا عن ما لم يجده غيره في التّفاصيل الدّقيقة، ثم جاء شوك كلوز يرسم البورتريهات الضخمة أيضًا، من الرأس والكتفين، متناولًا الوجه من الأمام بنفس الدّافع. كما نرى تنوع تناول الوجه، من عدم قبوله إلى المبالغة في غموضه وانغلاقه، من تصويره بحجم صغير جدًّا إلى أحجام بالأمتار، ومن الاختزال المفرط للملامح إلى الدّقة المتناهية في إخراجها. بين هذين الطرفين آلاف من الأعمال الفنية التي تعالج الوجه بشتى الأساليب، انطلاقًا من شتى المفاهيم. في هذا المحيط المتلاطم، ماذا يريد أحمد حسين؟ هل يبحث عن موقع قدم بين هؤلاء؟ لم لا، حلمٌ مشروع لكلّ فنان، من يملك حق حرمان الآخر من الطموح؟! السؤال الذي يجب طرحه ليس ما يريده أحمد حسين بل هل وضع قدمه على الطريق التي توصله؟ كي نجيب، لا بدّ من معرفة مميّزات الأعمال التي قدّمها الفنان أولًا: 1. الميّزة الأولى الأهم وتمثل المفتاح السحري لولوج و تطوير أي تجربة جديدة، هي التقنية التي استخدمها، التي تتميّز بقدرتها على توفير إمكانيّة التعبير عن البعد الزماني، و بمرونتها التي تُمكّن الفنان من التخلّص من أعباء المكان، ناقلة إيّاه إلى حيث اللامكان، بقابليّتها على العمل في كلّ الظروف، مع الألوان الباردة أو الحارة، أو في مساحات التّوازن بينهما، كما تستطيع تطويع التباين بين الألوان المشبعة وغير المشبعة (كما فعل في أعماله الحالية). 2. رغم وجود آلاف الأعمال التي نفّذها مئات الفنانين، خاصة بالأسلوب التجريدي، حيت تتكاثف الأشكال والخطوط لتُشكّل ملامح وجه آدمي يطلّ علينا من بينها، أو عيونًا تُحدّقُ بنا، إلاّ أن أعمال أحمد حسين تتميّز بخلفيّاتها التي وُظّفَت كأحد أهم العناصر في بناء اللوحة، ذات طاقةِ شحنٍ فني هائلة، مانحة العنصر الرئيسي قوة اختراق حقل الرؤية عند المتلقي، شبهنا هذه القوة برأس رمح مُدبّب، الخلفيات هي التي تُدبّب سنّ الرمح، بينما تظل جسمه الممدّد فوق مساحة العمل. 3. القوة التعبيرية للوجه الآدمي تتركز في العينين، ومن خلالهما نتمكّن نحن من الإحساس بما يدور خلفها في عالم الإنسان الداخلي، نقرأه، نحسّه، نركّبه، نتواصل معه دون لغة محكية، هنا أظهر أحمد حسين مقدرة فذّة على استنطاق العينين، وإجبار المتلقي على المشاركة معه في فكّ رموز ذلك العالم الخلفي الخفي، يتتبعُ حدسه المعرفي في الغوص لسبر أغوار النّفس. علينا أن نقول بأن العينين مع الحاجبين يتحكمان ويشتركان برسم أهم تعابير الوجه، الحاجبان يُظَهّران الابتسامة والضحكة والبكاء، ويوحيان بالشرود والتأمل والتفكير، يُعمقان الحزن والفرح، يَرسمان الدهشة والتفاجؤ والصدمة والامتعاض والتساؤل والتعجب والخوف والرعب، والغضب، يتتبعان حركة الشفاه كأنهما ظلان لفحوى الكلام ومعانيه، بدونهما يصبح شكل الصراخ مضحكًا، كما أن حجمهما ومكانهما بالضبط، ذات أهمية بالغة في رسم انطباعنا عن الوجه الآدمي وشخصيّة صاحبه، اعتنى أحمد حسين بحضور الحاجبين، وجنّدهما لجعل إيحاءات الوجه جاهزة لإرسال تلك النظرات بالتحديد، في هذا المجال أيضًا أمامه مهمّة ترويض الحاجبين أكثر، وتعميق مشاركتهما العينين في البوْح والقول والتعبير وضبطهما تشريحيًّا متجاوزًا بعض الهنّات في هذا المجال. بهذه المميزات المهمة جاء المعرض الرّابع للفنان، وبها وضع قدمه بل ثبّته على الطريق الصحيح، بالمثابرة وصقل التجربة وتعميقها وتعميمها في مجالات أخرى، سيجد مكانه الذي سيستحقّه بجدارة محفوظًا.