الهمّة غليان مستمر، وهيجان صاخب، ومثابرة عارمة، إنها قفز إلى القمة، وطيران إلى الأعلى. الهمّة قلب جياش، ونفس تواقة، وأمل بعيد. مَن رُزق الهمّة ارتحلت به وهو مقيم، وسافرت به وهو حال. تعلم أن تتسابق، ولياليك تتعانق! فالبدار البدار، فقد أفناك الليل والنهار. الطريق الذي طوله ميل، يقطع بخطوة، وسبقت السلحفاة الذئب؛ لأنها واصلت على بطء مشيتها، وهو ركن إلى سرعة مشيه، فوقف يلمح ظبيًا. وإنما أثر الحبل في الحجر؛ لأنه داوم، وإنما تخدد الجبل من الماء لأنه استمر، ومن ثبت نبت. فيا عاقلاً فهم الخطاب، لا تراوح مكانك. الطير قد غدا من وكناته، يطلب رزقه، والضب قد انسل من جحره يبحث عن قوته، وأنت ماذا تنتظر؟! قم إلى ميدان العمل، اطرد الفراغ، سابق عجلة الزمن، زاحم الجادّين. وسر مسرعًا فالموت خلفك مسرع وهيهات ما منه ملاذ ومهرب من السنن نمو الشجرة، وتفتق الزهرة، وجريان المجرة، فأقبح بإنسان سميع بصير، قعدت به نفسه الأمّارة، فلا هو في عمل الدنيا، ولا في عمل الآخرة، وثقل نعاسه، فصار ليله كنهاره. الناس في أشكالهم وصورهم ولحومهم ودمائهم سواء، وإنما اختلفوا في الهمم، فأصبح الواحد منهم يُعدُّ بألوف من الناس. خير صلى الله عليه وسلم بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، ونادى: {بل الرفيق الأعلى} وأرشدنا إلى طلب الفردوس الأعلى، وسأله أبو بكر الصديق: هل يدعى أحد من أبواب الجنة الثمانية؟ قال: {نعم، وأرجو أن تكون منهم}، وما ذلك إلاّ لعلو همته، لأنه كان من المصلين الصائمين الذاكرين المنفقين. وكان عمر -رضي الله عنه- لا ينام من الليل إلاّ قليلاً، ويقول: لو نمت في النهار ضاعت رعيتي، ولو نمت في الليل ضاعت نفسي. واشترى عثمان -رضي الله عنه- نفسه من الله مرات كثيرة. وعرضت الدنيا لعلي -رضي الله عنه- فرفضها، واكتفى بخبز الشعير، وقميص بال. وحج مسروق فما نام إلاّ ساجدًا. وكان سعيد بن المسيب يأتي المسجد قبل الأذان، وما فاتته تكبيرة الإحرام ستين سنة. ومن العلماء من وزع ليله أثلاثًا: ثلثًا لنومه، وثلثًا لتهجده، وثلثًا لمذاكرة العلم، وألف ابن عقيل الحنبلي في أوقات فراغه كتاب: الفنون في سبعمائة مجلد، وقرأ المزني رسالة الشافعي خمسمائة مرة. ومنهم من كرر صحيح البخاري عشرات المرات. وكان النووي لا ينام إلاّ ضرورة، وعطاء بن أبي رباح طلب العلم في المسجد الحرام، ونومه فيه ثلاثين سنة. وسافر جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- من المدينة إلى عريش مصر شهرًا كاملاً في طلب حديث واحد. فلله در الهمم ما أعظمها وما أجلها. أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا قيل للجعلان: لماذا امتهنت هذه المهنة الحقيرة؟ قال: لسقوط همّتي. وقال الحكماء: الناس بهممهم لا بأموالهم. الأسد لا يأكل الجيف، فأذعنت له البهائم، والخنزير يأكل القاذورات والنتن فحرم لحمه. وكلب الصيد المعلم أبيح صيده، وحرم صيد الجاهل. قالوا لحاتم: لماذا أتلفت مالك؟ قال: طلبًا للذكر الحسن. وقيل لعنترة: كيف غلبت الرجال؟ قال: بصبر ساعة. إذا طلع الفجر بان الربح من الخسران، من قام فتهجد أصبح نشيطًا طيب النفس، عامر القلب، موفور الأجر، ومن نام الليل كله أصبح خبيث النفس كسلان، مبخوس الثواب، ظاهر الحسرة، فما أكثر نوم الكسالى، وما عاد عليهم بصحة في الأبدان، ولا بخير في الأديان. صلِّ، أو سبّح، أو طالع، أو تفكّر، أو افعل خيرًا، فقد أصبحت شمس العمر على رؤوس سعف النخل، وليس في القبر فرصة للعمل، لا مسجد للصلاة، ولا مكتبة للقراءة: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) [سبأ:54]. سرح الطرف في القبور كم صرع فيها من شجاع. في بطون القبور أسرار وأخبار، ولسان الحال ينادي: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) [البقرة:197].