في ثقافة أي مجتمع تعيش فيه أطياف من الرؤى والأفكار والتصورات، وتتجاذب مع الآخر، وتسير معه وجها لوجه، يحتدُّ معها النِّقاش، وتتعالى الأصوات، عندها لابد من الاستماع إلى صوت العقل، وما يمليه من طرح هادئ، وفكر مستنير، وأدب خلَّاق، وسعي دؤوب إلى الحقيقة وحدها، لا إلى غيرها، ولا يتم ذلك إلى عبر ثقافة الحوار، وأدب الحوار. فالحوار هو لغة التواصل مع الآخرين والتأثير فيهم أو التَّأثر بهم، وهو ميدان فسيح تتلاقح فيه الأفكار، وتتصافح فيه العقول مع بعضها، وليس ثمة شك في أن بعض الحوارات تثري العقول، وتفتِّق فيها منابع التَّوقد والإبداع، وقد يحصل المرء فيها ما لا يحصله في مطالعات عديدة في الكتب، ذلك أن عناصر المعرفة والاطلاع تتصل اتصالا بعنصري الاختيار والانتقاء والإدراك الذاتي لفحوى تلك الآراء المطروحة في الحوار. ويتواصل الحوار عادة حينما تتوافر دواعي التواصل، وحينما يكون هناك أخذ وعطاء وإيراد وإصدار بين الطرفين المتحاورين دونما ضجة وغوغائية, ودونما توتُّر وتشنُّج. إن الحوار في ذاته سواء أكان علميًا أو ثقافيًا أو اجتماعيًا أسلوب لا يجيده إلا من توافرت لديه عناصر الإدراك والفهم السليم والقدرة على التحاور بأدب ولباقة مع ما ينبغي أن يتصف به المحاور من التواضع والحلم. وإن مما يؤسف له أن كثيرا من الحوارات الثقافية والعلمية التي تدور بين بعض المثقفين وطلاب العلم يكون ديدنها الاستبداد بالرأي والتعصب له مع ما يتبع ذلك من توتر ممقوت وتسفيه لآراء الآخرين ورميهم بالجهل والتخلف والجمود. وليت شعري أين أولئك من أخلاق طلاب العلم الذين من أخص سماتهم التواضع ولين الجانب، واحترام إخوانهم والتأدب معهم وعدم ازدرائهم والتقليل من شأنهم، والحرص كل الحرص على الفائدة العلمية وأخذها صحيحة دون تعنت أو تكبر. إن من أدب الحوار حسن الخلق واللطافة في القول، وعدم الاستئثار بالكلام، والابتعاد عن تجريح الآخرين، وطلب الحق، فإن البحث عن الحقيقة والصواب هو باعث النقاش وهو مدار الحوار، ثم يأتي تقبل الصواب دون تعنت أو تكبر، فالمقصود هو الصواب، والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها. أما الإساءة إلى الآخرين والنيل منهم فليس من دأب أهل المروءة والخلق الحسن وليس من سماتهم وطبائعهم، فإن الكلمة الطيبة أوقع في الصدور وأوعى لها من كلام يوغرها ويوقع فيها الحقد والبغضاء. إن الاختلاف في وجهات النظر حول قضية معينة لا يفسد للود قضية ما دام أن الباعث على ذلك هو الحق والخير والصلاح، فالنفوس الكريمة -وإن اختلف معها الآخرون- فإنها تظل كبيرة في تعاملها، لا تحمل بين جوانحها سوى الخير والود والصفاء. *الأستاذ المشارك بكلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية.