اعتبر أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة أم القرى الدكتور عدنان الحارثي أن المتتبع لتراث العمارة الإسلامية، يدرك أنها تمثل حالة إبداع رائعة، بما تشمله من أنظمة تصميم ومكونات معمارية للمنشآت وزخارف متميزة، ومن خلال تناسبها مع الظروف المناخية واعتمادها على الخامات المشتقة من البيئة المحلية، ولفت الانتباه إلى ضرورة تضافر الجهود، لإيجاد ممارسات حقيقية قادرة على إحياء هذا التراث، ووضعه في مكانه اللائق ضمن الأساليب المعمارية الحديثة، بعدما اعتراه الضعف في العصر الحالي، وأوضح أن مؤسسة الوقف كانت من أكثر المؤسسات التي دعمت الأنشطة المتنوعة في الحضارة الإسلامية، إلا أنها بدأت تعاني من الضعف في أداء دورها نتيجة للفساد الذي يعتريها، وكشف عن أن قطاع الآثار في العالم العربي يعاني الكثير من المشاكل، من أبرزها ضعف أساليب الحماية والحفاظ على الآثار، وعدم كفاءة أساليب الترميم، «الرسالة» طافت معه في العديد من القضايا المتعلقة بواقع الآثار الإسلامية في العالم العربي في ثنايا الحوار التالي: حوار: سيد يونس - تصوير خالد رفقي * بداية ما وقع اختياركم للتكريم في مؤتمر الأثريين العرب الأخير الذي عقد بجامعة الدول العربية بالقاهرة؟ حقيقة كان القرار مفاجأة بالنسبة لي، وهو يخضع لآليات ترشيح وموافقة واختيار وقد شعرت بالسعادة الكبيرة كوني أصبحت أحد الذين شرفوا بالحصول على هذه الجائزة المبنية على ثقة أعضاء مجلس إدارة الاتحاد، وهم من خيرة العلماء وكبار الآثاريين العرب آثار وحضارة * أنت أستاذ حضارة ورغم ذلك العملية الأثرية تشغل حيزا كبيرا من وقتك وجهدك؟ بحكم عملي في مجال التدريس الجامعي فإن خدمتي لقطاع الآثار ينصب في المجالات المرتبطة بعملي والتي يمكن حصرها في مجالات رئيسية وهي: إجراء البحوث والدراسات عن الآثار، وقد وفقني الله عز وجل للكتابة عن آثارنا داخل المملكة وخارجها، وذلك بحكم اختصاصي في مجال الآثار الإسلامية، بيد أن بحوثي في الآثار داخل المملكة وبخاصة في مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة كانت هي الأكبر والأهم، حيث شملت آثارًا باقية وأخرى مندثرة، علاوة على الدراسات المرتبطة بالجوانب الحضارية. والثاني المجال التعليمي والتدريسي، من خلال تدريسي لمواد لها علاقة بالآثار، مثل مادة معالم الحضارة الإسلامية، العمارة الإسلامية، ومراكز الحضارة الإسلامية، ويضاف إلى ذلك الإشراف على الرسائل العلمية التي لها علاقة بالآثار ومن ذلك رسائل عن مكةالمكرمةوالمدينةالمنورةوجدة وغير ذلك. والثالث من خلال الإعلام، فقد كان لي شرف المشاركة في عدد من البرامج التلفزيونية، من أبرزها برنامج على خطى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وعن مدينة الطائف وعن مدينة الربذة، وغير ذلك، بالإضافة إلى الكتابة في الصحافة وإجراء المقابلات، وقد كان لي من خلالها شرف لفت الانتباه إلى أهمية الأروقة القديمة للحرم المكي الشريف، حيث بينْت أنها عباسية الأصل، وليست عثمانية كما يعتقد البعض، وأن العثمانيين كان لهم إضافات فيها. مكتبة رقمية *نود التعرف أيضا على جهودكم في إنشاء مكتبة رقمية متطورة بمكتبة بجامعة أم القرى؟ هذا الأمر ارتبط بعملي في عمادة شؤون المكتبات بجامعة أم القرى، حيث ابتدأت منذ أن توليت العمادة بالعمل على الاشتراك في قواعد المعلومات الالكترونية باللغة الإنجليزية، فظهر لي أن من المناسب التفكير في إنشاء قاعدة بيانات عربية تتيح الإنتاج الفكري لجامعة أم القرى وما تملك حق نشره وإتاحته، فعرضت الأمر على مدير الجامعة وكان وقتذاك معالي الدكتور ناصر الصالح، فأيد الفكرة وقدم لي توجيهات إدارية قيمة، تمخض عنها إنشاء لجنة من المتخصصين في مجال المكتبات والمعلومات للاستفادة من خبرتهم في هذا المجال، وبالفعل انطلق المشروع الذي أصبح علامة بارزة في مجال التحول الرقمي للمنتج المعرفي باللغة العربية، ونتوقع أن يقدم هذا المشروع المزيد بإذن الله تعالى، خاصة وأنه يحظى بدعم جميع مسؤولي الجامعة وعلى رأسهم معالي مديرها الأستاذ الدكتور بكري عساس. الإنسان المتوتر * أنتم أستاذ الحضارة والنظم الإسلامية بجامعة أم القرى كيف ترون العلاقة بين المكتبات والتخصص الأصلي؟ دعني أقول أنني عاشق للمكتبات والمكتبات مجال وتخصص، وهو يتقاطع مع جميع التخصصات العلمية، وبالنسبة للمتخصص في مجال الحضارة الإسلامية فقد يكون للعلاقة جوانب أخرى تتجاوز التعاطي المعلوماتي والمعرفي إلى دراسة تاريخ الكتاب المخطوط وما يرتبط بذلك من فنون الكتابة والزخرفة والتذهيب والتجليد وغير ذلك. * وجهتم جزءًا من اهتمامكم نحو العمارة الإسلامية وكان لكم مؤلف بعنوان عمارة المدرسة في مصر والحجاز.. هل بقى شيء من الطراز المعماري الإسلامي بعد غابات الاسمنت والأبراج الزجاجية التي انتشرت في القاهرةوجدةومكة؟ بدأت أبواب الحرم المكي الشريف تظهر كوحدات معمارية بارزة مع العمارة الأولى للحرم المكي الشريف والتي أمر بها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد شهدت هذه الأبواب زيادات مضطردة وعمارات مهمة وبخاصة في العصر العباسي حيث اعتنى بعمارتها وزخرفتها. وقد شهدت بعد ذلك تطورات نوعية قيمة خاصة من ناحية العمارة وإن كان عددها لم يختلف عما كانت عليه في العصر العباسي، إذ لم يعمد العثمانيون إلى التغيير في هذا الجانب. أما بالنسبة للعصر السعودي، فإن التوسعات الكبرى التي شهدها الحرم المكي الشريف، ضاعف عدد الأبواب أضعافًا عدة، فبينما كان عدد الأبواب في العصر العثماني لا يتجاوز تسعة عشر (19) بابًا، نجد أن عددها في العصر السعودي تجاوز المائة باب (100)، الرئيسية منها تتسم بضخامتها وروعة تصميمها المعماري المشتق من العمارة الإسلامية. والمتتبع لتراث العمارة الإسلامية، يدرك بوضوح أن هذه العمارة هي حالة إبداع رائعة، تبينها أنظمة التصميم والمكونات المعمارية للمنشآت وأنواعها، علاوة على الزخارف المتميزة والتي أعتقد أنها من أجمل وأرق ما صنعته يد الإنسان، ومن أهم ما يميز العمارة الإسلامية تناسبها مع الظروف المناخية وخاماتها المشتقة من البيئة المحلية. ولا شك أن هذه الحالة الإبداعية تعاني في هذا العصر من الضعف الشديد رغم المحاولات هنا أو هناك، لإحياء هذا النمط المعماري الجميل، وتبقى هناك حاجة ماسة لتضافر الجهود، لإيجاد ممارسات حقيقية قادرة على إحياء هذا التراث، ووضعه في مكانه اللائق ضمن الأساليب المعمارية الحديثة، وهذا بدون شك يقتضي اقتباس الفلسفة من تراث هذه العمارة وإيجاد أدوات تطوير لها تمكن من أداء وظيفتها في هذا العصر الحديث، وأود في ذات الوقت من التحذير من غابات الاسمنت وأنها تخلق إنسانًا متوترًا ويعاني من مشاكل نفسية. الماضي والحاضر *الأوقاف نالت حظها من اهتمامكم وقدمتم دراسة حول الوثيقة الشاملة لأوقاف رضوان بل بالحجاز ومصر كما أنكم كنتم عضوًا في اللجنة التحضيرية للمؤتمر الأول للأوقاف، وأعتقد أن وزرة الأوقاف والشؤون الإسلامية تهتم كثيرا بإحياء الأوقاف ما هو تصوركم لكيفية إعادة استثمار الأوقاف في الأعمال الخيرية بما لا يخل بوصية الواقف؟ إن الإجابة على هذا السؤال يحتاج إلى صفحات وصفحات ولكني سأحاول الاختصار قدر الإمكان، فمؤسسة الوقف كانت من أكثر المؤسسات التي دعمت الأنشطة المتنوعة في الحضارة الإسلامية، فهي مولت دعم ومساعدة الفقراء كما دعمت التعليم بمستوياته المختلفة ووقفت إلى جانب البحث العلمي والعلاج في البيمارستانات (المستشفيات) ودعم الزواج والصناعة وصولًا إلى الحيوانات ولم تضعف مؤسسة الوقف إلا نتيجة الفساد الذي اعترى هذه المؤسسة، فادى إلى ضعفها وتراجع دورها الكبير في الحضارة الإسلامية، ولا شك أن إعادة إحياء مؤسسة الوقف ستمكّن من دعم الكثير من الأنشطة الخيرية في مجتمعاتنا المعاصرة. ** ثار جدل منذ فترة حول حدود المدينةالمنورة وهل تعتبر كلها حرم ويسري على المدينة ما يسري على الحرم النبوي، ما رأيكم؟ حدود المدينةالمنورة كحرم معروفة رغم بعض الاختلاف البسيط بين بعض الباحثين حول ذلك، أما عن كونها كلها حرم أم لا ولها ذات الأحكام التي تنطبق على المسجد النبوي الشريف، فهذا أمر شرعي يعرف حكمه المتخصصون في العلوم الشرعية. سياحة دينية * السياحة الدينية في المملكة – كيف يمكن تنشيطها؟ وهل هناك محاذير شرعية في ذلك؟ السياحة الدينية؟ لا يوجد شيء اسمه «سياحة دينية» فالإنسان عندما يزور مكانًا ما لغرض التعبدفإن ذلك لا يعد سياحة وإنما عبادة تعكس التزاما شرعيًا وطاعة للمعبود سبحانه وتعالى، السياحة قد تكون علمية وثقافية وتاريخية وترفيهية ورياضية وطبية وغير ذلك، وهذه هي أنواع السياحة، ويمكن في حالة كهذه أن توظف السياحة بطريقة مثلى وتكون أداة للرقي بمعارف الإنسان وثقافته، بالإضافة إلى الرقي بالحس الإبداعي، علاوة على تلبية الحاجة الطبيعية للإنسان للراحة والاستجمام. علاقة طرفية *الآثار والسياحة في المملكة ما هو التطور الحادث فيهما؟ الآثار علم، الهدف منه معرفة الماضي البشري بكافة مقوماته ومعطياته وما يرتبط بذلك من إثراء لمعارف وثقافة الإنسان المعاصر، والعلاقة بين الآثار والسياحة هي علاقة طرفية الهدف منها تنمية الثقافة العامة للإنسان علاوة على الاستثمار الاقتصادي. أما عن واقعهما فنحن نشهد في هذا المجال تطورات نوعية تشهد عليها زيادة أعداد المتاحف وأساليب الحفاظ على الآثار الموجودة ويبقى استثمار ذلك في مجال السياحة، فهذا يحتاج إلى جهود كبيرة وإمكانيات ليست متاحة حاليا والجهود متواصلة ونتمنى أن نتمكن من النجاح في مهمتنا هذه. * هل نجحتم بصفتكم عضو في لجنة اختيار أسماء شوارع وأحياء مكة في تخليص العاصمة المقدسة من أسماء «النكاسة» و»اللصوص» و»القمامة»؟ الجهود متواصلة ونتمنى أن نتمكن من النجاح في مهمتنا هذه. جهود مثمرة *هل نحج مؤتمر اتحاد الآثاريين العرب في التنبيه إلى الإضرار التي لحقت بالآثار الليبية جراء ضربات الناتو؟ إن مؤتمرات الاتحاد وهيئة الإدارة تبذل جهودًا كبيرة للحفاظ على آثار العالم العربي خاصة ونحن في عالمنا العربي نعد الأغنى من حيث الآثار وبفارق كبير عن المجتمعات الأخرى، ويكفي أن نشير إلى جهود الاتحاد في التواصل مع اليونسكو في هذا المجال ولهذا الأمر أهميته الكبرى، فقد كان لجهود الاتحاد دور مهم في اعتراف هذه المنظمة بدولة فلسطين، وهذا أمر له أهمية كبيرة بالنسبة للحفاظ على التراث الثقافي الفلسطيني، كما أن للاتحاد جهودًا مشكورة في المطالبة بالحفاظ على الآثار في العراق وليبيا وغيرها من البلدان العربية. مشاكل عديدة * أنتم لكم وجهة نظر بشكل عام حتى في البلدان العربية التي لم تتعرض لآثار حروب فأنت ترى أيضا آثارها معرضة لكارثة، كيف ذلك؟ لا شك بأن قطاع الآثار في عالمنا العربي يعاني الكثير من المشاكل، من أبرزها ضعف أساليب الحماية والحفاظ لهذه الآثار، علاوة على عدم كفاءة أساليب الترميم، كل ذلك ينعكس سلبًا على قطاع الآثار مما يجعلها عرضة للسرقة والنهب من جهة أو أن تكون عرضة للتلف، بيد أن هذا الأمر لا ينطبق على كل مواقع الآثار فهناك بلدان ومناطق تحظى فيها الآثار بشيء من الاهتمام المقبول وإن كان المطلوب توفير المزيد؛ لأننا من أغنى مناطق العالم من حيث المكون الأثري (مواقع أو مقتنيات) مع ضرورة التأكيد على أن الآثار هي جزء من الهوية الثقافية والوطنية للأمة، وهي جزء رئيسي من تراثها المعرفي وما يمثله ذلك من معطيات مغذية لمعارفنا وثقافتنا المعاصرة. أمية متنوعة * المجتمع العربي مصاب بالأمية الالكترونية، كيف يمكن أن يستفيد مجتمع كهذا بمثل هذه الأفكار والتحديات؟ العالم العربي يعاني من أمية متنوعة ومتعددة الأشكال تشمل الجوانب الإلكترونية وغيرها، ولمواجهة هذا الأمر نحن في حاجة إلى تحقيق حراك ثقافي علمي واسع مدفوع بكافة وسائل التأثير بدءا من المنبر وصولًا إلى الإعلام والأسرة وغير ذلك، بما يحقق نهضة كبيرة واسعة الانتشار، ولكن ينبغي أن يسبق ذلك تغير اجتماعي يتمثل في تقليص مساحة الفقر والمرض، لأنها تمثل البنية التحتية للانطلاق في أي مجالات نهضوية أخرى. مسيرة الضيف الدكتور عدنان بن محمد الحارثي أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة أم القرى حصل على رسالة الماجستير حول عمارة المدرسة في مصر والحجاز في القرن التاسع الهجري دراسة مقارنة ثم رسالة الدكتوراة في التطور الحضاري والعمراني لمدينة القاهرة شغل عضوا في العديد من اللجان منها لجنة تكريم الرواد بجامعة أم القرى ولجنة المكتبة الرقمية بالجامعة نفسها وترأس اللجنة الفنية لعمادة شؤون المكتبات ورئيس لجنة المخطوطات الموجودة في مكتبة الملك عبدالله بن عبدالعزيز الجامعية ولجنة تسمية الشوارع والميادين وترقيم العقارات بمكةالمكرمة ولجنة وحدة المتاحف بجامعة أم القرى ولجنة عمداء شؤون المكتبات بالجامعات السعودية إلى جانب كونه مشاركًا فاعلًا في كثير من المؤتمرات العربية والدولية فهو يعد مكوك لا يهدأ يرى متعته في السفر والترحال والغوص في أعماق أبحاثه والتاريخ الأثري للأمة العربية.