في حالات الفقد الجسيمة تبدو كل كلمات العزاء جوفاء .. بلهاء .. بل وصماء أيضا . عبارات العزاء التقليدية لا تضع في اعتبارها أن الفقد ليس حالة عارضة أو وضعا طارئا . الفقد يتحول مع موت الأحبة إلى حقيقة علينا التعايش معها حتى نلتحق بأولئك الأحبة . ولذلك يبدو العزاء محاولة للاحتيال على تلك الحقيقة المرعبة التي يسعى الناس إلى عدم تصديقها .. الحقيقة ان فقد الأحبة يعني مواصلة ما تبقى من الحياة بدونهم .. بدوننا .. ومهما مر الوقت الكفيل بتقليص حجم الأحزان وبإيصالها إلى مرحلة التحلل النهائي ، فإن ما لا يتوقف أمامه الكثيرون هو أن الحزن شيء والفقد شيء آخر . الخلط بين الحزن والفقد يشبه الخلط بين الشجن والحزن . في حالات الشجن يتطاول الحزن لكنه لا يعلو فوق هامة إحساس عجيب بالرضا .. إحساس مركب يتسلل إلى النفس ويكاد يغمرها بدفء حزين يشبه مطر الشتاء الخفيف الصامت . أما الحزن فحالة بسيطة غير مركبة يستولي فيها الإحساس بالألم ، على نفس من يمر بها ويعاني منها . الفقد مظهر من مظاهر الحزن ، لكنه المظهر الوحيد - من بين جميع مظاهر الحزن الأخرى - المحصن ضد قانون الفناء . كيف يمكن ان يسلو المرء شخصا لا يمكن أن يموت بداخله ..؟ الحزن يموت ويخضع لقانون الفناء الذي يسري على كل الأشياء والعناصر وحتى الحالات الشعورية نفسها . الحزن لا يستمر إلى ما لا نهاية ، وكذلك الفرح .. لكن الفقد لا يكتفي بالعيش داخلنا ، بل ينمو ويكبر حتى ولو تخلص من مظاهر الحزن التقليدية المصاحبة له . في الفقد وبعد أن يتخلص المرء من مرحلة الإنكار ، يبدأ في فتح أدراج الذاكرة بشكل لا إرادي ، فتنهمر الصور والكلمات والمواقف التي وضعت بصماتها على جدار قلبه وعقله وروحه . وهنا يعود المرء إلى مرحلة الإحساس باللوعة .. وهي مرحلة لا تنتهي إلا لكي تبدأ من جديد . وهنا تبدأ الأسئلة ويستيقظ لوم الذات وكأنه سياط لا تتوقف عن النزول على ظهر القلب : لماذا لم أستمتع بوجوده بشكل أكبر ..؟ لماذا لم أدرك يوما أن الفراق سيحول بيني وبينه ..؟ لماذا فوّت على نفسي الكثير من الفرص للالتقاء به والجلوس إليه ؟ لا .. كل كلمات العزاء تبدو صماء مهما كانت بليغة .. كيف يمكنني أن أصبر على فقدان من هو حاضر دون أن يمثل للبصر ..؟ أتراني قادرا على احتمال غياب له كل مقومات الحضور ، ما عدا الحضور نفسه ؟