قبل نحو ثلاثين عامًا، أُتيح لي إعادة اكتشاف دور الأدب في الصراع الدولي، وقدرة رواية على أن تفعل في الهند ما لا تستطيع اثنتان وعشرون سفارة عربية، ومكتبان أحدهما لجامعة الدول العربية، كان يترأسه د. كلوفيس مقصود، والآخر لمنظمة التحرير الفلسطينية. كنتُ في زيارة لإحدى كبرى مزارع البن في جنوب الهند، حين كلّف صاحب المزرعة الثري، ابنته الشابة بمرافقتي، وزميل صحافي فلسطيني يحمل الجنسية الأردنية في جولة بالمزرعة، أثناء الجولة، سألت الفتاة عن البلاد التي ننتمي إليها، فقال لها صديقي -الذي ينتمي إلى عائلة فلسطينية عريقة، قدمت أحد رؤساء الوزارات في الأردن- أنا من فلسطين، فاتّسعت حدقتا الفتاة، وتساءلت بدهشة: أين تقع تلك الفلسطين؟! حار صديقي في الشرح، ورحت أحاول مساعدته، فرسمتُ لها خارطة فوق الرمال، وأشرت إلى موقع فلسطين على الخارطة، وإذا بالفتاة تصرخ: لا.. لعلّك تقصد إسرائيل؟! وعندما سألتها: من أين سمعت بإسرائيل؟ قالت: قرأتُ رواية ليون أوري»Exodus»، أي «سفر الخروج»، إنها الأكثر مبيعًا في الهند، بيعت منها ملايين النسخ، ثم قرأتُ للكاتب ذاته رواية «Oh Jerusalem» (وا قدساه)، آنذاك لم تكن لإسرائيل سفارة بالهند، فيما تفسح نيودلهي صدرها لاحتضان مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية، يقضي رجاله معظم وقتهم حول مسبح فندق أوبروى بنيودلهي؛ ليكحلوا عيونهم -على حد تعبيرهم- بمشاهد نساء شرق أوروبا اللائي يمضين يومهن بالمسبح، بانتظار عودة أزواجهن (الخبراء الأجانب) من أعمالهم. «سفر الخروج» للأديب الأمريكي (اليهودي) ليون أوري، فعل لإسرائيل ما لم تفعله كل سفارات العرب، وكل مكاتب الجامعة العربية، وكل مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية. وذات الكتاب أتاح لي يومها اكتشاف عمق المأزق الحضاري الذي نعيشه، وفداحة الثمن الذي ندفعه، فقد اكتشفت يومها أننا في العالم العربي بحاجة إلى «سفر خروج عربي»، ولم يدر بخلدي يومًا، أنني قد أعيش حتى أرى خروج شعوب عربية في مناطق ما أصبح يعرف ب»الربيع العربي»، ولم أتصوّر أن خروج تظاهرة في بلدة سيدي بوزيد بتونس، ثم في إمبابة بالقاهرة، سوف يقود إلى خروج بن علي، ثم مبارك، ثم القذافي، ثم الرئيس اليمني علي صالح من مقار الحكم، وقصور الرئاسة، فيما يحتدم المخاض في دمشق، بعد خروج الشعب السوري إلى الشارع مطالبًا بخروج الأسد، وعائلته من القصر. أخيرًا.. أصبح لدينا «سفر خروج عربي»، كنا مهددين كأمة بدخول «سفر الخروج من التاريخ»، فأصبحنا بعد خروج الشباب إلى شوارع الربيع العربي، نمتلك لأول مرة في التاريخ الحديث كله فرصة «الخروج إلى المستقبل»، كنا أمة خارج الزمن، فوضعنا الشباب من جديد على أعتاب زمان جديد، لكن للزمن الجديد شروط للالتحاق بعضويته، لا تتحقق بمجرد الخروج إلى الشارع، ما لم يمتلك الشارع مشروعًا نهضويًّا، لا يقوم بغير استيعاب دقيق لقيم النهضة ومتطلباتها، وأولها امتلاك المنهج الذي يقود إلى التغيير، فالتغيير لا يتحقق بمجرد خروج فئة غاضبة، ولا بمجرد سقوط نظام تجاهل احتياجات الناس، فأسقطوه غضبًا، أو ثورةً. المنهج الذي ينبغي أن يسبق بالضرورة الحركة وآلياتها، يقتضي تحديد وجهة التغيير، ثم المهام المطلوبة والمجدولة زمنيًّا لتحقيقه، لكن ما يحدث حتى الآن ببعض تجارب الربيع العربي، لا يعكس في أغلب الأحيان منهجًا، ولا رؤيةً، خذ مثلاً، قصة البحث عن حكومة جديدة في مصر، بعد إصرار شباب ميدان التحرير على إقالة حكومة عصام شرف، كانت هناك أسماء يطرحها الميدان، وأسماء أخرى يطرحها المجلس العسكري، وكأنما التغيير سوف يحدث بمجرد إحلال زيد محل عمرو، بينما القضية الرئيسة التي كان ينبغي أن ينشغل بها كل مَن الميدان، والمجلس، هي طبيعة المهام المطلوب إنجازها في المرحلة الانتقالية، والتي يرى شباب الميدان أن حكومة شرف لم تحققها. كان الطبيعي أن يكون الحوار حول المهام، وليس حول الرجال، فالمهمة هي التي تستدعي مَن يمتلك القدرة والكفاءة لإنجازها، وليس العكس. لكن ما جرى -ولايزال يجري- هو البحث عن رجال، ثم تحديد المهام وفقًا لما يمكنهم القيام به، نفس الخطأ المنهجي الذي وضع عربة الانتخابات أمام حصان الدستور قبل بضعة أشهر، وترتب عليه كل ما نراه في المشهد السياسي المصري الآن، من جدال يطول، وزمن يضيع، وفرص تفوت. وبدا في زحام الأحداث، وسباق التتابع بين الميدان، وبين مَن أوكلت إليهم مهام إدارة الثورة، أنه حتى المسمّيات اختلطت، والمعاني ضاعت، أو تآكلت أطرافها، فالحكومة التي ينتظرها المصريون تحمل مسمّى «حكومة إنقاذ وطني»، والمهام التي يتطلّع المصريون إلى تحقيقها قبل أي شيء آخر، هي استعادة الأمن الداخلي بكل ما يقتضيه ذلك من إجراءات، تبدأ بإعادة هيكلة جهاز الشرطة، وفق قيم تحترم مفاهيم دولة القانون، وتلتزم بمبادئ حقوق الإنسان، ثم اتخاذ ما يلزم من إجراءات لإنعاش الاقتصاد، بعدما خسر الاحتياطي النقدي ما يزيد على 35% منه خلال عشرة أشهر، ثم استكمال بناء مؤسسات الدولة، وتحقيق التحوّل الديموقراطي المطلوب بنقل السلطة إلى هيئات منتخبة (برلمان وحكومة ورئيس). هذه المهام الثلاث الرئيسة هي ما ينبغي ألا تنشغل حكومة الإنقاذ الوطني بغيره، وبناء على طبيعة المهام كان يمكن الانتقال إلى المرحلة التالية باختيار الرجال المؤهلون لإنجازها، ثم بتحديد العدد المطلوب من الوزراء لمثل تلك المهمة «الانتقالية المحدودة»، بما كان ينبغي أن يقود بدوره إلى حكومة «رشيقة» تضم ما بين 12 إلى 18 وزيرًا، ولا يمكن تشكيلها ضمن حسابات تمثيل القوى السياسية المختلفة، والرغبة في استرضاء كافة التيارات. على كل حال وأيًّا كان الأمر، فإن ثمة حاجة إلى التصحيح المبكر لخطايا غياب المنهج، في كافة ساحات التغيير بجميع مناطق «الربيع العربي»، حتى يصبح الخروج إلى المستقبل أقل كلفة، وأعلى ربحية، وأسرع خطى.