أخيراً، هذا إنجاز سياسي حققته القيادة الفلسطينية في الصراع المديد والمرير والمعقد ضد إسرائيل، مع نيل الاعتراف بفلسطين دولة في الأممالمتحدة، ولو إنه انجاز معنوي، وناقص وجزئي. وأخيراً فهذه معركة خاضتها تلك القيادة، ولو بتأخر قدره عقد ونصف من الزمن تقريبا، ظلت في غضونه رهينة المسار التفاوضي وحده. السؤال الآن، ماذا بعد؟ وما هي الخطوة التالية؟ ومثلاً، هل المطلوب العودة إلى مسار المفاوضات؟ وماذا بشأن كيان السلطة؟ وما هو مصير منظمة التحرير؟ هذه بعض أهم التساؤلات والتحديات، التي تطرح نفسها على الفلسطينيين، وعلى كياناتهم السياسية (المنظمة والسلطة والفصائل)، وبالتأكيد فإن شكل الإجابة عن هذه التساؤلات هو الذي سيحدّد طريقة استثمار الانجاز السياسي الحاصل، والبناء عليه، من عدم ذلك. في هذا الإطار، ليس ثمة في المعطيات الراهنة ما يوحي بأن ما تحقق في الأممالمتحدة يمكن أن يغيّر من مكانة الفلسطينيين في العملية التفاوضية إزاء إسرائيل، وهذا ما دلت عليه التصريحات المتعنتة والمتغطرسة لمعظم المسؤولين الإسرائيليين، وما تبعها من توجهات تتعلق بتعزيز الاستيطان في الضفة الغربية، وغير ذلك من خطوات ضاغطة على السلطة الفلسطينية. لذلك فإن القيادة الفلسطينية ليست في حاجة، ولا هي مضطرّة، لمعاودة الانخراط في مسار المفاوضات، بل إنها، على العكس من ذلك، مطالبة بالمضي إلى النهاية في شأن نقل قضية فلسطين إلى الأممالمتحدة، بكل هيئاتها، لمطالبة المجتمع الدولي بإنفاذ قراراته المتعلقة بحقوق الشعب الفلسطيني، ووضع إسرائيل في مواجهة الأطراف الدوليين. وينبغي أن لا ننسى هنا أن حق الفلسطينيين في إقامة دولة لهم، لا ينجم فقط عن الاعتراف الذي حصل أخيراً، وإنما هو ينبع أيضاً، من القرار 181 (1947)، ومن قرارات الجمعية العمومية التي تعتبر قيام دولة فلسطينية حقاً من الحقوق غير القابلة للتصرف لشعب فلسطين (مع حق العودة وتقرير المصير)، هذا إضافة إلى قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي ذاته، ورقمه 1397 (لعام 2002). فإذا كان الفلسطينيون، في هذه الظروف، لا يملكون موازين القوى التي يمكنها أن تقنع حكومات إسرائيل بحقوقهم، عبر التفاوض، فإنهم باتوا يكسبون على الصعيد الدولي، في حين أن إسرائيل باتت تخسر، بعد أن باتت تظهر أمام العالم على شكل دولة استعمارية واستيطانية وعنصرية ودينية، بدليل خسارتها مكانة الضحية، ومكانة الديموقراطية الوحيدة في المنطقة، مع الثورات العربية. هذا يعني أنه ينبغي الاستثمار في الوضع الدولي، الذي بات يتغير لصالح الحرية والعدالة للفلسطينيين، على صعيدي الحكومات والمجتمعات، للتعويض عن الخلل في موازين القوى، ولنزع الشرعية السياسية والقانونية والأخلاقية عن سياسات إسرائيل ومواقفها، لعزلها وتعزيز الضغوط عليها، بدلاً من المضي في مفاوضات عبثية، وغير مجدية. فبعد الاعتراف الدولي، وعلى ضوء ردة الفعل الاسرائيلية المتغطرسة، لم يعد ثمة ما يمكن التفاوض في شأنه، بخصوص الأراضي والحدود والمستوطنات، فهذه باتت مسألة منتهية في عرف القانون الدولي، ويبقى انفاذ الحقوق الفلسطينية في شأنها، بمفاوضات أو من غير مفاوضات. لكن ما ينبغي الانتباه إليه هنا هو أن هذه المعركة، التي لا بد ستكون شاقة وطويلة ومضنية، لا ينبغي أن تصرف الفلسطينيين عن الاهتمام بإعادة ترتيب بيتهم، وإضفاء الحيوية والفاعلية على بناهم، وتجديد خطاباتهم، فمن دون ذلك لا يمكن إدارة المعركة السياسية على الصعيد الدولي بطريقة ناجعة، كما لا يمكن استثمارها على النحو الأمثل. هذا يحيلنا إلى السؤال المتعلق بواقع السلطة، وماهية وظائفها، ففي غضون السنوات القليلة الماضية، وعلى خلفية استعصاء المفاوضات، وأفول حل الدولتين، بسبب الممارسات والموقف الإسرائيلية، باتت مكانة هذه السلطة، في العملية الوطنية الفلسطينية، موضع شكّ، باعتبار انها تحجب واقع الاحتلال الإسرائيلي، وتحافظ على أمن إسرائيل، وتخلي مسؤوليتها كدولة محتلة. هذا الواقع، بعد الاعتراف الدولي، ينبغي الاشتغال على تغييره، وضمنه تجاوز الخلل الخطير الذي تضمنه اتفاق أوسلو (1993)، والذي لم ينص على تعريف إسرائيل كدولة محتلة، ولا على تعريف الضفة والقطاع باعتبارهما أراضي محتلة، وحتى أنه أتاح لإسرائيل تقطيع اوصال الضفة الى مناطق (أ) و(ب) و(ج)! على ذلك، وبعد كل ما جرى، لم يعد من المناسب الحديث عن إنهاء السلطة، او حلّها، لأن هذا انجاز ينبغي البناء عليه، لا تصريفه بطريقة خاطئة، وهذا يعني أن البناء على ما جرى في الأممالمتحدة يفترض إعادة تعريف الكيان الفلسطيني المتمثل في السلطة، لا حلّ السلطة، وهذا يشمل حصر مهمتها في إدارة أوضاع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، والتعبير عنهم، وتأمين الخدمات لهم، من مختلف النواحي، وتعزيز مقومات صمودهم، بمختلف الأشكال، وضمن ذلك إنهاء المزاوجة المضرة بين رئاسة السلطة والمنظمة. بمعنى آخر فإن هذا الوضع الجديد يفترض الانتهاء، ما أمكن، من الوظائف الأمنية والتفاوضية والسياسية للسلطة، باعتبارها مجرد سلطة تحت الاحتلال، وهو ما يتناسب مع منطوق القرار الدولي المتمثل في الاعتراف بدولة فلسطين في نطاق الأراضي المحتلة (1967)، ما يحمّل إسرائيل كل المسؤولية عن الاوضاع في هذه الأراضي، بوصفها دولة احتلال. أيضاً، فإن هذا يقودنا إلى البحث في تحديد العلاقة بين كياني السلطة ومنظمة التحرير، وتالياً البحث في مستقبل المنظمة، فلم يعد من المقبول، ولا من المجدي، السكوت عن ذلك أو تجاوزه، بخاصة أن التجربة بيّنت خطورة التماهي بين المنظمة والسلطة، والجمع بين الرئاستين، لأن هذا التماهي أضعف مكانة المنظمة وهمّش من دورها، وأثار المخاوف في صفوف اللاجئين، وأوجد فجوة بينهم وبين كياناتهم السياسية، فضلاً عن أن ذلك حمّل كيان السلطة مهمات أكبر من قدرتها، لا سيما بالنسبة الى الضغوط المتأتية من قبل الاحتلال. القصد أن هذه الحالة ينبغي حسمها تماماً، لصالح توضيح وترشيد مكانة السلطة، وأيضاً لصالح استنهاض مكانة منظمة التحرير، باعتبارها الكيان السياسي الجامع لكل الفلسطينيين في الداخل والخارج، والمعبّر عن قضيتهم، والممثل الشرعي الوحيد لهم، لا سيما أن الدولة الفلسطينية لم تصبح واقعاً ملموساً بعد، ولم يتبين بعد كيفية تمثيلها للاجئين، ولمجمل جوانب قضية الفلسطينيين. كما يعني ذلك ضرورة الحفاظ على منظمة التحرير، باعتبارها كيان حركة التحرر الوطني للفلسطينيين، وإن اتخذت بهيكليتها وأجهزتها شكل كيان دولة في المنفى، بحيث تتحمل هي مسؤولية إدارة الصراع السياسي ضد اسرائيل، بمختلف أشكاله. أخيراً، ثمة مسألتان في غاية الأهمية ينبغي اخذهما في الاعتبار في هذا السياق: اولاهما، أن ليس ثمة شيء اسمه «الى الأبد»، لا الامبراطوريات ولا الكيانات ولا الحدود ولا الهويات ولا الاتفاقيات ولا التوقيعات ولا القرارات، وهذا ينطبق علينا، أي على كياناتنا، كما ينطبق ذلك بخاصة على اسرائيل ذاتها. وأقصد ان التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تحدث داخل المجتمعات، في منطقة الشرق الأوسط، وفي منطقة المشرق العربي، هي التي تحدد مستقبل هذه المنطقة، الحبلى بالتغيرات، في كل حقبة من الحقب التاريخية، وهذه نقطة عمومية، تخصّ الفلسطينيين وغيرهم. أما النقطة الثانية، فهي تخصّ الفلسطينيين، وتتعلق بضرورة لفت انتباههم إلى أن أي رؤية سياسية أو أي خيار سياسي ينتهجونه، ينبغي ان يأخذ في الاعتبار أهمية تعزيز الهوية الوطنية للفلسطينيين، وترسيخ وحدتهم كشعب، لأن من دون ذلك لا يمكن اعتبار أي شيء انجازاً مهما كان أمره. وهذا يفترض، أيضاً، تأسيس أية رؤية سياسية، وأي خيار سياسي، على الحقيقة والعدالة، وعلى متطلبات حل المسألتين الفلسطينية والإسرائيلية، والمطابقة بين قضية فلسطين وشعب فلسطين وأرض فلسطين، ولو على الصعيد المستقبلي، لأن من دون ذلك لا يمكن الوصول إلى أي مكان. إذاً، مبروك لشعب فلسطين ما تحقق في الأممالمتحدة، فهذه خسارة لإسرائيل، لكن هذه خطوة على الطريق، وليست نهاية الطريق، وهذا انجاز ينبغي البناء عليه لا القعود عليه، فهذه ما زالت دولة تحت الاحتلال. ومبروك للعالم انتصاره المتأخّر والجزئي والناقص للشرعية القانونية والأخلاقية والسياسية لعدالة الفلسطينيين وتضحياتهم من أجل حقوقهم. * كاتب فلسطيني