إذا كان هناك ثمة ضحية للثورة الليبية خلاف آلاف الشهداء الذين قضوا على يد نظام القذافي وقوات النيتو معا، فإنها ولا شك الموضوعية والمعايير المهنية التي سقطت من حسابات الفضائيات الإخبارية العربية. أداء الفضائيات العربية خلال هذه الثورة أثبت أن هذه الفضائيات تحولت إلى منابر للثوار، وهذا شيء غير مقبول حتى وإن كنا نظن أن الثورة والثوار يمثلون جانب الخير المطلق، في حين يمثل الطاغية القذافي ونظام حكمه الأسري جانب الشر المطلق. الآراء والمواقف ليس لها مكان في العمل الإعلامي، صحيح أن كثيرًا من وسائل الإعلام في العالم مسيسة وتملك توجهات وأجندات خاصة، لكن المهنية والاحترافية يقتضيان تجنب الوقوع في فخ المباشرة والفجاجة والخطابية بهذا الشكل. على سبيل المثال فإن محطة بي بي سي التلفزيونية التي تعود ملكيتها للدولة في بريطانيا، وجميعنا يعرف من هي بريطانيا وما هو موقعها في حلف النيتو، تحدثت عن المأساة الإنسانية بمدينة سرت المحاصرة والتي تسببت بها كتائب القذافي والثوار وقوات النيتو مجتمعين. ولقد ذكرت القناة أن جرحى القصف والقصف المتبادل قضى أغلبهم بسبب عدم قدرتهم على الوصول إلى المستشفيات أو المراكز الطبية نظراً لعدم توقف القصف من الجهتين. مثل هذه الأخبار تغيب أو تكاد تغيب عن شاشات القنوات العربية التي اختارت أن تكون منبراً دعائياً للثوار، مضحية بدورها كجهة هدفها البحث عن الحقيقة ونقلها، ومفرطة في كل الاعتبارات المهنية التي تعد المعيار الوحيد لقياس جودة أداء القناة ووسيلة الإعلام عموما، من عدمها. أقول ذلك بمعزل عن عواطفي الشخصية وموقفي المبدئي المؤيد للثورة والمناهض لطاغية ليبيا السابق ولنظام حكمه ولأسرته. موقفي هذا يمكنني بل من واجبي أن أعبر عنه من خلال المقالات التي أكتبها والتي تحمل رأيي الشخصي والتي أتحمل مسؤوليتها الفكرية والأدبية والأخلاقية كاملة ولوحدي. لكن من قال إن وسائل الإعلام يجب أن تتحول إلى منبر للرأي أو أداة للتعبير عن وجهات النظر؟ حتى الجزيرة التي خطت خطوات مهنية عملاقة عادت وتراجعت بسبب الثورة الليبية. الانحياز المكشوف هو إخفاق مهني قبل أن يكون سقوطاً أخلاقياً.