- انهض أيها الكسول، لا تستكن وتسترسل في نومك، أمامك يوم حافل بالعمل عليك إنجازه. - دعني أيها الضمير، لا أطلب منك الكثير، فخمسُ دقائق إضافيةً لن تضير. - هيا أيها الجسد الموبوء، لا تحمّلني عذابًا إضافيًا، فما عدتُ أقوى على تحمل المزيد، سبعٌ وخمسون سنة وأنت تتخمُني بخطاياك حتى كدتَ أن تقتلني، ولولا أني بسبعةُ أرواحٍ لقضيتَ عليَّ قبل عشرين عامًا، ولا أعلم كيف بقيتَ حيًا كل هذه السنين، فجسدكَ المترهل وبطنكَ المتهدل.. كأنه منطادٌ كبير، والضغطُ والسكرُ والقلب.. لقد أصبحتَ كالآلةِ القديمةِ المتهالكة لا تنفعُ معها صيانة أو تصليح. - كفى.. كفى، لقد نهضت، لا أريدُ أن أسمعَ منك المزيد. أعدُّ القهوة وأنا أقلبُ ماءها بملعقةٍ صغيرةٍ، ورائحة البن تُعششُ داخل أنفي. لا.. لا تشربها يا غبي!!. اسكت ولا تقلْ شيئًا، فوالله لو أنَّ فنجانَ القهوة هذا سوف يُرسلني إلى القبر لما امتنعتُ عنه. لا أريدُ لضغطكَ أنْ... قلتُ لك اخرسْ يا جبان. جلستُ على الأريكة ارتشفُ قهوتي وأحضّرُ أوراقَ المعاملةَ التي شغلتني لأشهرٍ عدة، وأنا أطوفُ بها بين الدوائر الحكوميةِ، ولم يتبقَّ لي سوى ختمُ الوزارة الأخير، عليَّ أن أستطيع رفعَ قرار الاستملاك عن الأرضِ التي ورثتها عن أبي وجدي وجده لقد تقرر إنشاء مدرسةٍ في المنطقة وسوف يُدفع بالمقابل ثمن بخسٌ لا يساوي ربع القيمة الحقيقية له. تمكنتُ من الحصول على موعدٍ مع معاون الوزير، بعدما تدخّل أُناس مهمون، فحُدد لي اليوم لذلك الموعد.. كي أحصلَ على استثناء لأرضي، فأصبح حالي كمن ينتزعُ اللقمةَ من فم السبع. الأولى بي أنْ أتصلَ بمكتبِ السفر لأحجز مقعدًا إلى العاصمةِ في رحلةِ الساعة السابعة. صعدتُ إلى الحافلة واتجهتُ إلى مقعدي، جلستُ ووضعت حقيبةَ اليد بالمقعد المجاور، من الجيد لرجل ضخم مثلي أن يحظى بمقعدين دون أنْ يزاحمني شخصٌ آخر بجواري لقد حالفني الحظ هذه المرة. *** يا له من إحراج.. ليس هذا الوقت المناسب لذلك «السكر اللعين» قيل ذات مرة لهارون الرشيد: - ماذا تفعل إن مُنعتْ عنك شربةُ الماء؟. - قال: ادفع نصف ملكي. - وإن منعت الخروج من جسدك؟. - قال: ادفع النصف الآخر، هههه.. صدقت يا هارون.. صدقت. قضيتُ حاجتي في مرفقٍ عام وعدتُ لأجدَ أنَّ الحافلة قد انطلقت.. وانطلقت معها حقيبتي وآمالي. ركضتُ خلفَ الحافلة محاولًا اللحاق بها قبل أنْ تبتعد، لكن هيهات، لقد ضاقَ نفَسي وأصابني الدوارُ ورحتُ ألهثُ بقوةٍ، فتوقفت لألتقطَ أنفاسي، وألملم ما تبقى من كبريائي بعد أنْ أصبحتُ المشهد الوحيد لكل الموجودين في الشارع. ماذا أفعل، كيف أتصرف، هل ذهب عناءُ أشهرٌ من التعب هباءً. لا.. لا يعقل أن يحدثَ لي هذا.. ما الحل؟ أين سيارات الأجرة الآن؟.. عندما تحتاج الشيء لا تجده!. قفْ.. هيا هيا بسرعة الحق بالحافلة لو سمحت، بسرعةٍ أرجوك. حسنًا.. حسنًا، اربط حزام الأمان واهدأ، سوف أوصلك إليها إن شاء الله. نظرتُ إلى السائق، كان عجوزًا في الستين من عمرهِ له شارب شعيراته مصوبةٌ إلى الأمام، يلبسُ نظارة ًطبيةً، وبفمه سيجارةً يطبقُ عليها بما تبقى من أسنانه، يذرُّ منها الرماد على ملابسه، كان متشبثًا بالمقود وكأنه يركب حصانًا. هل فاتتك الرحلة؟. نعم أسرع أرجوك.."وكأنهُ لا يبدو أن الرحلة َقد فاتتني، وإنما لدي هواية بملاحقة الحافلات"!. الأفكار تتقاذفني في بحرٍ من المجهول، خوفًا من فقدان الفرصة الوحيدة لي، وخسارة أرض العائلة. وبين مد وجزر الواقع والخيال، تراءى لي أنَّ العداد قد تحوّل إلى وحشٍ كاسرٍ وكأنهُ يريد أنْ يلتهمَ ما في جيبي من نقود.. ويلتهمني بعد ذلك، وكان السائق يتفاعل مع الحدث كما لو أنهُ يمثلُ معي فيلمًا بوليسيًا، وبعد مضي وقت ليس بالقصير لاحتْ لنا الحافلة في الأفق البعيد. أهذه هي الحافلة؟. نعم هي، أسرع لو سمحت فالأمرُ ضروري. وبينما زاد صاحبي من سرعة السيارة، بدأتُ أتصبب عرقًا، وشعرتُ بأنني أسقطُ من أعلى شلال. قفْ!!. قف بسرعة. ما بك؟!. لقد أوشكنا على اللحاق بالحافلة!!. قلتُ لك قف، بسرعة أرجوك. سأتوقف ولكن أخبرني لماذا؟!. إنه..إنه..إنه السك... لا بل هارون..لا بل.. أكادُ أنفجر يا رجل، بالله عليك أنْ تتوقف، أم أنكَ تريدني أنْ أقضي حاجتي في سيارتك؟!!. ضغطَ على المكابح بقوة حتى توقفتِ السيارة، فخرجتُ مسرعًا لأتوارى خلف شجرةٍ إلى جانب الطريق، هيا.. يكادُ أن يغمى علي.. وأنا مصابٌ بانحباسٍ شديد، حتى هذه البولة اللعينة تأبى أنْ تخرج حتى أدفع بالمقابل ثمنًا للوقت والعداد الذي يحتسب عليَّ الثواني قبل الدقائق.. أفلتتْ مني ضحكة ساخرة.. فما يجب أنْ يكون هارون أكرم مني في مسألة مماثلة. أصابتني القشعريرة واغرورقت عيناي بالدموع، فتراقصت الأشجار والمناظر أمامي، ووصلت زقزقة العصافير إلى مسامعي بعد أنْ كنتُ أسمعُ طنينًا، والحاااافلة تواااارتْ رويدًا.. رويدًا خلف الأفق. عدتُ بعدها إلى صاحبي مترنحًا مسترخيًا بعد اللحظات العصيبة التي مررتُ بها. ألا يجب أن يكون في المجتمع معاملة خاصة لمرضى السكري؟.. فلا يتوجب عليهم الانتظار والوقوف في الطوابير.. وإعفائهم من المعاملات الحكومية أو الوقوف عند الإشارات الحمراء، يجب أن تكون دروبهم سالكة دائمًا حتى في الثلوج والضباب. *** لما وصلنا إلى مشارف العاصمة، استطعنا اللحاق بالحافلة، فأوقفناها وسط استغراب كل من فيها، صعدتُ إلى الحافلة لأواجه ابتسامة عريضة من سائقها، فأخبرته عن سبب لحاقي به وعن حقيبتي المهمة، فازدادت ابتسامته عرضًا، وقال بلهجة المعاتب: ظننتك عدلت عن السفر، فقد تأخرت عن موعد الانطلاق، لذا أعدت حقيبتك إلى مكتب الحجوزات ظنًا مني بأنك نسيتها. جلست في مقعدي أنظر من خلال النافذة، أفكر في كل ما حدث لي اليوم، لو أن الأمور سارت على خير ما يرام لتمكنت من إنقاذ أرضي من الاستملاك، ولكن.. ربما أرضٌ أخرى لأيتامٍ أو فقراء لا حول لهم ولا واسطة كانت ستُستملك، وإن كنتُ في قرارة نفسي لا أحبذُ بيع ما هو موروث بل توريثه كما ورثته، فما المانع أنْ يرثَ أبنائي وأبناء البلدة أرض آبائي وأجدادي؟. نزلتُ في المحطة، ودخلتُ مكتب الحجز.. لو سمحت: أريدُ تذكرة للعودة إلى صوابي.. عفوًا إلى بلدتي.