تعودت أقلام بعض الكتاب أن تكتب عن فضائل الراحلين من أصحاب المناصب، وأرباب الشهرة من رجال أعمال وكتاب وأدباء وشعراء.. في حين أنها تتحاشى الكتابة عن أقرب الناس لها ممن لهم فضل عليها خشية الاتهام باستغلال مساحة القلم لأمور شخصية، لكنّي أرى أن هؤلاء الذين كانت لهم أيادٍ بيضاء على صاحب القلم، وفي حياتهم عِبَر ومواقف إنسانية يمكن أن تجعلهم نموذجاً يحتذى، هم أولى بالكتابة. وفي مقالي هذا سأقدم نماذج لرجال كان لهم فضل علي، ولهم معي مواقف إنسانية حُفرت في القلب، وعلقت في الذاكرة ولن تبرحها ما حييت.. ففي مقابل المثل القائل: وراء كل رجل عظيم امرأة، أقول: وراء كل امرأة ناجحة رجل. هذه النماذج المشرقة من الرجال علينا أن نبرزها حتى نسكت تلك الأفواه التي تسعى لتصدير المرأة السعودية وكأنها المرأة الوحيدة بين نساء العالم التي ترزح تحت ظلم الولي، حتى اعتقد العالم أن جميع رجال السعودية وحوش ضارية لا يُقدِّرون المرأة ولا يحترمونها، فأصبحت صورة عامة، وقاعدة ثابتة. فالإعلام الخارجي بمختلف وسائله، نراه يحشر أنفه في قضايا المرأة السعودية وكأنها قضية عالمية مصيرية، وجعل من نفسه وصياً عليها، ومنقذاً لها فأخرجها نموذجاً للمرأة المظلومة، مسلوبة الحقوق من وليها ومن المؤسسات الوطنية، ومن الأحكام الشرعية. اتخذوها مادة إعلامية خصبة يشغلون بها أوقاتهم ويملأون بها برامجهم ونجد النماذج السلبية للأولياء المتوحشين والظالمين هي التي تتصدر الإعلام. والذي دفعني لكتابة هذا المقال هو رحيل عمي الحبيب يوسف عبدالكريم الظهار إلى الرفيق الأعلى يوم الأربعاء الماضي، تغمده الله برحمته وأدخله فسيح جناته، وهو آخر من بقي من رجال العائلة الكبار، فأخذت أتذكر هذا النموذج الفاضل من الرجال، وكريم معاملته لبنات أخيه، وحسن أخلاقه معهن، فهو خير نموذج لاحترام المرأة، وتقدير رأيها، وخير معين لها على سلوك دروب العلم. بل، كم كان هيّناً ليناً عطوفاً!! كيف أنسى فضله وهو من كان يُغلق دكانه الذي هو مصدر رزقه لمدة أسبوعين أو ثلاثة ليصحبني وأختي في رحلة علمية خارج البلاد لاجتلاب المخطوطات والكتب، بل ويمكث معنا داخل المكتبات الساعات الطوال من غير تذمر أو تأفف، وكيف كان يصحبنا على الدوام من وإلى مقر عملنا بالمدينة المنورة، بكل انشراح وطيب خاطر، مواقف إنسانية عديدة لا يسع المقام ذكرها ولكنها محفورة في كل نبضة إحساس. من قبله كان عمي محمد الظهار الذي مازلت أحتفظ له بصورة لا تبرح خيالي إذ كان مريضاً بالقلب خارجاً لتوه من المستشفى، ومع هذا لم يمانع في صحبتنا كمحرم في إحدى سفرياتنا، وقد أكبرت فيه شهامته تلك، وخجلت من نفسي وأنا أنظر إليه وهو ينزل بكل عناء من على درجات الطائرة، فأخذت أعتذر له فكان يبتسم بأنه سعيد بقيامه بهذه المهمة، عندها علمت أن المعروف كفيل بأن يمحو كل الخلافات التي بين البشر. وفي الوقت الذي نسمع فيه عن حرمان المرأة من ميراثها، أو اختلاس ذلك الميراث لضعفها، فإن هؤلاء الراحلين الكرام قد تنازلوا طواعية عن حقهم في الميراث لبنات أخيهم تعففاً وتكرماً. ومازال شريط نماذج الرجال الذين فهموا معنى القوامة فهماً عملياً صحيحاً يتوارد على خاطري، حتى رأيت والدي الكريم، الذي لم يتضجر قط لإنجابه ثمان بنات، بل كان يفرح بكل مولودة أنثى ويعتبرها مصدر رزق، ولم يتزوج لإنجاب الولد كما أشار عليه الكثيرون بعد وفاة ابنه الوحيد الأكبر الذي كان في الثامنة والعشرين من عمره، فتحمل بكل شرف عبء هؤلاء النسوة وحده، فلم أشهد رجلاً في حياتي يحسن معاملة النساء، ويحسن تربيتهن، ويحسن احترامهن مثله، لقد كان مدرسة وحده في فن التعامل مع النساء وفق تربيتهن. تعلمت منه الصبر الحقيقي، والإيمان الصادق بالقضاء والقدر، من موقفه حين بلغه خبر وفاة أخي الذي توفى خارج البلاد، فلم يتلفظ إلا بقوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت.. ولا تدري نفس بأي أرضٍ تموت). تعلمت منه الجلد، وتحمل الصعاب، وكيفية مغالبة الشدائد، والتصدي لضربات الحياة القاسية، وعدم الاستسلام لليأس، بل على الإنسان أن يرفع رأسه ويبدأ من الصفر مستعيناً بالله، وذاك حين أصابته أزمة مالية حادة إثر خلاف مع شركائه في التجارة، فكابد وكابد حتى أقام مصنعاً للموبيليا، ثم أثمرت تجارته بفضل الله. كان يشاركنا الرأي نحن النساء حتى في تجارته، ويعملنا كثيراً من أمور التجارة، والبناء، والاحتكاك بالمجتمع، وقضاء الحوائج، وكل ما من شأنه أن يكسبنا الاعتماد على النفس، فهو يعلم أن على المرأة التي في مثل ظروفنا أن تتعلم الاعتماد على النفس، وأن تكون صلبة قوية، حتى لا تصبح عالة على أحد، لذا كان يصر على تسليحنا بالإيمان أولاً، وبالعلم ثانياً، وبالعمل ثالثاً. لو كان بيدي لمنحت أبي أكبر جائزة عالمية في حسن تربية النساء، لكن ما عند الله خير وأبقى. وبهذه النماذج وغيرها كثير في بلادي، يتضح أن ليس كل النساء السعوديات يعشن في الظلم والاضطهاد، نعم هناك فئة تنظر للمرأة نظرة جاهلية بعيدة عن الدين، وهذه الفئة موجودة في كل أنحاء العالم، وفي مقابلها في بلادي هناك فئات ونماذج مشرفة ومضيئة تحترم المرأة وتكرمها – رحم الله أمواتنا وأموات المسلمين وأسكنهم فسيح جناته.