الكتابة عن ما يقارب قرن من الزمان كتابة ملتبسة خاصة في عالمنا العربي الذي لم يكن يرتهن في قرونه الأخيرة إلى التدوين وصار الحديث عن الاحداث واحيانا الاحداث الكبرى يكون غالبا مرتهنا بالذاكرة والحكم التقريبي في تحديد الشخوص والتواقيت والغوص في ذاكرة مجتمع مثل مجتمع مكة أو الحجاز كمكان ومحاولة استعادة شخصية كشخصية الرائد محمد سرور الصبان. ولأن صفحات العمر متعددة ومحطات الحياة عديدة، كان لابد ان نلتفت للأهم الأهم وهذا ما يستدعي ان نتوقف عند محطة تنويرية وثقافية واجتماعية في حياة محمد سرور الصبان هي محطة انشاء المكتبة الحجازية وخوض غمار النشر الفكري والادبي. ومن يتأمل في مسيرة حياة الصبان في سوق الليل وعلاقته بابنائها وباقي ابناء مكة من المهمومين بالادب مثل محمد عمر عرب وعبد الله فدا وعبد الوهاب آشي يضاف اليهم القادم من جدة للتواصل معهم محمد حسن عواد ، وتنامي هذه المجالس الادبية لتتحول الى جمعية ذات رؤية واضحة نحو الادب والحياة هي (جمعية الادب الحديث) لا بد ان يتأكد ان هؤلاء الشباب لم ينبتوا من فراغ بل هم امتداد لما حولهم من وعي بالحراك الادبي الجديد . ويصف الناقد والباحث حسين بافقيه هذه اللحظة مؤكدا بعدها التنويري بقوله «وتم ذلك ، وبصورة لافتة للنظر ، في تكريس مؤسسات خاصة بتدشين معالم الأدب الحديث ، ك (المكتبة الحجازية) التي أسسها محمد سرور الصبان فى مكةالمكرمة ، والتى قامت بنشر (أدب الحجاز) و (المعرض) و (خواطر مصرحة) وكأنه أراد من وراء ذلك إحداث قطيعة مع أشهر مطبعتين فى مكةالمكرمة ، وهما (الميرية) و (الترقى الماجدية) اللتان لم توليا الأدب اهتماما يذكر ، خاصة أن مضمون الكتب الثلاثة التى تمثل فاتحة الأدب الحديث لم تكن لتنسجم مع مضمون الكتب التى قامتا بنشرها ، (لكن) بعد سنة من صدور أدب الحجاز جاء المعرض أو آراء شبان الحجاز فى اللغة العربية : 1345ه / 1926م، مؤكدا الحس الجماعى فيه ، ومنتميا إلى موضوع بالغ الحداثة ، وهو ما أثارته مقالة نقيق (الضفادع) لميخائيل نعيمة فى كتابه (الغربال) عن اللغة الأدبية ، والتى أزرى فيها على عدد من الكتاب والأدباء المحافظين على النقاء اللغوي وقوفهم فى وجه التجديد فى الأساليب اللغوية والكتابية ، والتى لخصها فى مقولته النقدية الذائعة (فى الأدب العربى اليوم فكرتان تتصارعان : فكرة تحصر غاية الأدب فى اللغة ، وفكرة تحصر اللغة فى الأدب) ، فكان سؤال محمد سرور الصبان إلى رصفائه من شبان الحجاز : مصلحة الأمة هل من مصلحة الأمة العربية أن يحافظ كتابها وخطباؤها على لغة الفصحى أو يجنحوا إلى التطور الحديث ويأخذوا برأي المصريين فى تحطيم القيود اللغوية ، ويسيروا على طريقة عامية مطلقة ؟ فتفضلوا بإبداء رأيكم وما يحملكم على ترجيح إحدى الكفتين من البراهين القاطعة والأدلة المعقولة عسانا نجد مجموعة من أقوال ذوي الاطلاع على ما يساعدنا على تكوين رأي عام فى هذا الموضوع». وهذه المقدمة التساؤلية التي طرحها الصبان انما تؤكد بشكل كامل بأن هؤلاء الشباب الذين الصبان بالنسبة لهم رائد وعميد انما كانت تذهب في خطابها الادبي والفكري نحو بعد تنويري يستلهم الوعي العربي الذي في الكتابات الرائجة آنذاك . ويحتوي كتاب (أدب الحجاز) الذي جمعه ونشره الصبان على نصوص شعرية ونثرية لجيل من الأدباء الشباب،مثل محمد حسن عواد،عبدالوهاب آشي،محمد سعيد العامودي،إضافة إلى محمد سرور الصبان نفسه وان كان الادب هو مظلته الكبرى الا ان الكتاب في مجمله يحتوي على كل هموم الوطن ولكن على لسان الادباء الذين كانوا في ذلك الوقت اكثر ابناء المجتمع وعيا بما حولهم بسبب قراءاتهم وتواصلهم مع العالم من حولهم. كتب المرحلة وباستعادة ما كتب حول تلك المرحلة الزمنية المهمة من تاريخ بلادنا والتي كانت محطة ما قبل البداية لدخول الصبان معترك العمل الحكومي وبتدرج سريع أوصله الى اعلى المراتب الادارية، نجد ان الجميع يتفق ان لصحيفة القبلة التي تعتبر اول صحيفة في مكةالمكرمة حين صدورها عام 1924 من النوافذ التي ألهمت الشباب الوعي بما حولهم اضافة ان المكتبة التي افتتحها الصبان باسم المكتبة الحجازية وما كانت تأتي به من كتب من بيروت والقاهرة نافذة مهمة لهم لتطوير مداركهم وتوسيع افقهم وزيادة ملكاتهم الادبية بسبب احتكاكهم بتجارب ادبية تعتبر في ذلك الوقت من افضل النماذج التي كتبت بالعربية. ويعتبر صدور كتب (أدب الحجاز أو صفحة فكرية من أدب الناشئة الحجازية شعرا ونثرا) و (خواطر مصرحة) و (المعرض) الاطلالة الاولى لبشائر الأدب والفكر الحديث في بلادنا ، خاصة وانها مست بشكل كبير الهواجس الاجتماعية التي كانت تعصف بالمجتمع انذاك وهو بين السكون وبين التواصل مع العالم من حوله. واذا كان أول إصدار أدبي طبع ونشر بعد توحيد هذه البلاد، هو كتاب (أدب الحجاز)، فإن الإصدار الثاني كان كتاب (المعرض) صدر في سنة 1345ه، لأدباء ذلك العهد في الحجاز، كان وليد فكرة شبابية نادت بعد ظهور الإصدار الأول (أدب الحجاز) بتأسيس جهة تتولى النشر وتخرج آثارهم الأدبية في كتب مطبوعة للقراء. وبالفعل تم تأسيس (المكتبة الحجازية) التي تعتبر أول دار للنشر في هذه البلاد، في بداية عهد التوحيد، وقد أسسها وتولى إدارتها الأديب الشيخ محمد سرور الصبان، وصدر عنها كتاب (المعرض) الذي يوحي عنوانه أن يكون معرضا فكريا أدبيا لأولئك الأدباء والشبان، وقد ضم محتواه موضوعا واحدا أثاره ناشره محمد سرور الصبان في صورة استفتاء وجهه في سؤال إلى زملائه وأقرانه الأدباء، وطلب منهم الإجابة عليه، ثم جمع تلك الإجابات، وأصدرها في كتاب (المعرض) وكان السؤال: هل من مصلحة الأمة العربية أن يحافظ كتابها، وخطباؤها على أساليب اللغة العربية الفصحى، أو يجنحوا إلى التطور الحديث، ويأخذوا برأي العصريين في تحطيم قيود اللغة، ويسيروا على طريقة حديثة عامة مطلقة؟. وجاءت الإجابات تحمل ما يؤكد على حصافة رأي بعض أولئك الشبان، ومقدرتهم على موازنة الأمور، في شجاعة، وصدق، ووضوح رؤية في توضيح منهجهم وتطلعاتهم. خواطر مصرحة ويجيء اصدار الصبان لكتاب: (خواطر مصرحة) للأستاذ محمد حسن عواد رحمه الله، الذي صدر في سنة 1345ه، عن المكتبة الحجازية أيضا، تكريسا لدور محمد سرور الصبان في محيطه الاجتماعي والثقافي، وتمثل ذلك في المقدمة التي قدم بها الصبان هذا الكتاب وقال فيها «لقد طلع الفجر فاستيقظنا ونادانا الواجب فلبينا، وبدأنا نسمع صوتنا لمن أنكرنا وصرنا نكتب ونشعر، نكتب لنعلم كيف نكتب، ونشعر لنعلم كيف نشعر، وانا كما قال ولي الدين لسنا متجاوزين حدا من حدودنا، وما فينا من يطمع طرفه الى فائدة خاصة ينالها. ويتضمن كتاب (خواطر مصرحة) مجموعة افكار ورؤى حملت روح العواد في حماس واندفع، واندفاع في بعض الأحيان، ولكنها كانت كلها، تشع بالإخلاص الوطني الصادق، والإخلاص للدين، واللغة، والأدب، كتبها في ثنايا أيام سنة 1344ه ونشرها في أوائل سنة 1345ه، وكان وقتذاك يستقبل السنة العشرين من سني حياته. وفي مقدمة كتابه يصف العواد ما يقدم بأنه عبارة عن قطعة مجسمة من بشريتي وشخصيتي خلقتها نفسي من انفعالها بالحياة الإنسانية التي عبرت عنها صورها المشهودة والمحجبة.. انفعال بلوره الفكر والعاطفة والإرادة والخلق وسائر أشعة النفس، هو المزيج الذي وصفته بأنه: طرف من الفلسفة، وقبس من التاريخ، ومزيج من السياسة والعمران (الاجتماع)، ولمحات من العواطف، وتيار من التفكير. وتمثل هذه الكتب الثلاثة مجموع ما صدر خلال النصف الأول من القرن الرابع الهجري، وتحديدا في سنتي 1344ه، و 1345ه .