تواصل «المدينة» اليوم مع الفقيه العالم الشيخ الدكتور علي بن عباس الحكمي عضو المجلس الأعلى للقضاء وعضو هيئة كبار العلماء الجزء الثاني والأخير من الحوار، حيث أفاد أن التمادي في المباحات في شهر رمضان المبارك أمر مكروه، يبعد صاحبه عن المقصد الشرعي من الصيام، مشيرًا إلى أن الأمة الإسلامية تمر بأسوأ مراحلها، متمنيًا عودته قوية عزيزة، مناشدًا المسلمين استلهام الأحداث والمواقف الإسلامية التي شهدها رمضان، حتى يقتدوا بحال السلف الصالح. وعرج الحكمي على بعض المواقف والدروس التي عاشها في رمضان طفلًا وشابًا وشيخًا، متمنيًا العودة لمرحلة الفتوة والشباب، مبرزًا في حديثه المكانة والروحانية لبلد الله الحرام، مبينًا أن ما يعمله من أعمال في رمضان ليس عبادة محضة خالصة، متطرقا إلى بعض الجوانب الفقهية والأحكام الشرعية ذات العلاقة بشعيرة الصيام، فإلى الحلقة الثانية من الحوار الذي خص بها الحكمي «المدينة». «المدينة»: معاني رمضانية في كتاب الله يتوقف عندها ضيفنا كثيرا في رمضان، وتعيد النظر فيها أكثر من مرة. الحكمي: كتاب الله تعالى كله خير وذكرى وتذكير وعبرة، وأي آية تقف عندها تجد فيها معنى يحفزك على الاطمئنان أولًا وأن بين يديك كلام الله، ولا شك أن هناك آيات في القرآن لها وقع كبير في النفس ومن ذلك قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا) يقف عندها الإنسان من ناحية القرب إلى الله سبحانه، وبخاصة في هذا الشهر شهر الذكر والعبادة، والآيات في ذلك كثيرة. * «المدينة»: موقف أو درس تعلمتموه في رمضان ولا تنسونه أبدًا ؟ الحكمي: الدروس والمواقف والعبر في رمضان كثيرة، من المواقف المحفزة على العمل والاهتمام وفي نفس الوقت محرجة، هو موقف طريف تعرضت له في بدايات دراستي في المعهد العالمي بصامطة قبل (50) عاما تقريبا يتعلق برمضان، حينما كانت الحياة بدائية لا كهرباء ولا مواصلات كثيرة سوى (اللوري) القديم آنذاك، وأغلب الناس كانوا يقطعون المسافات مشيًا، وكنت في السن (13) من عمري، وبعد صلاة التراويح من إحدى ليالي رمضان، وأنا في (العزبة) وحيدا لم يلحق بي بعد أحد من إخوتي وزملاء الدراسة، فإذا بشخصين ينادونني باسمي بعد منتصف الليل، فخرجت لأستطلع الأمر فإذا بهما من أعيان القرية كبيرين في السن في وجهة سفر، فأشعلت (الفانوس)، ولم يكن بحوزتي غير حبتين من الموز وقليل من الدقيق وحفنة من السمن البري والإيدام، وببراءة الطفولة سألتهم أتريدون عشاء، فنظرا إليّ وهما في أشد حالات الجوع فقالا لي: اجعله سحورًا، فأسقط في يدي إذ لا أملك إلا ما ذكرت آنفًا، وكانت أكلة (المرسة) وما زالت الأكلة المحببة لأبناء الجنوب خصوصا جازان، وتتناول عادة في وجبة الغداء وفي سحور رمضان، فلم يكن بد إلا عمل هذه الوجبة إكراما لهما، فأوقدت (الطباخة) وأخذت جاهدا تجهيزها بالرغم من قلة مكوناتها، فلما استوت وبقيت آخر مراحلها وهي سكب السمن على (المرسة)، أخذت السمن وكان في أسفل قارورة زجاج (متجمد)، ووضعتها على النار الهادئة ليكون سائلًا انكسرت الزجاجة وانسكب السمن على (الطباخة)، مما اضطرني إلى تقديم وجبة (المرسة) بلا سمن، وهي التي لا تؤكل ولا تعرف إلا بالسمن خاصة عند كبار السمن، فقدمتها لضيفيّ، بعد أن أخبرتهما بما حدث، فضحكا، والتهما الوجبة، وللجوع حكمة. * «المدينة»: وماذا عن المواقف المحرجة في أثناء إلقائك للدروس في الحرم المكي؟ الحكمي: لم يحدث لي بفضل الله مواقف محرجة في أثناء دروسي في الحرم، إلا مرة واحدة وأنا أشرح في كتاب (منتقى الأخبار)، وفي إحدى مسائله التي تتحدث عن المكروه عند الإمام أحمد، وأنا أعلق عليها، فإذا بشاب مار من أمامنا يرفع صوته يقاطعني بقوله: (مصطلح الفقهاء يفرقون في المكروه فيطلقون المكروه على الحرام، ويطلقون...)، باعتراض مباشر، فسكت حتى انتهى، فقلت له: نحن نعرف هذا، ولو أردت أن تتبين اجلس واسمع ثم ناقش، فأكمل مسيره دون أن يستمع لما نقوله في هذه المسألة. * «المدينة»: ما الذي اختلف في حياتكم الرمضانية عن ذي قبل؟ وما الذي تغير في يومكم الرمضاني في مراحل حياتكم المختلفة؟ الحكمي: مما لا شك فيه أن مراحل الحياة تختلف فيها أحوال الإنسان، ففي أيام الصبا ليست لديك مسؤوليات، فكل الأمور أمامك مهيأة، وما عليك إلا أن تحقق رغباتك في حدود الأمور الفطرية المباحة، أما مرحلة الشباب فلا يملك الإنسان الآن إلا أن يردد قول الشاعر: ألا ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيب أما مرحلة الكبر وتحمل مسؤوليات الأسرة والأبناء والعمل فإن الأمر يختلف، لأنك تصبح أنت المربي والمشرف والمتابع والمعطي، فحينها يكون الإنسان محسًا بالمسؤولية، ويرتب أموره، ومنذ أن أصبحت لي أسرة لم يختلف لدي الأمر كثيرا عما هو الحال الآن، وإنما اختلفت البيئة من حولنا، فسابقا لم تكن هناك الكهرباء والأسواق التجارية ولا غيرها من سبل الراحة، لكنها كانت حياة هادئة جميلة. وأذكر فيما يتعلق بطفولتي كان والدي يحرص على أن يعودنا ويربينا على أنواع العبادات المختلفة وكنت وقتها دون العاشرة من عمري، فكان الوالد يحرص على من هو من إخوتي فوق العاشرة أن يوقظهم لتناول السحور مع أفراد الأسرة، وما دون هذه السن كان لا يلزمهم بالصيام فلا يحاول إيقاظنا خشية ما قد يلاقينا من تعب ونصب خصوصا ومنطقة جازان حارة جدا، وكنت أحب أن أشارك أسرتي تناول السحور مع الوالد والوالدة وبقية إخوتي، فحينما يبدأ تجهيز السحور وتبدأ حينها الحركة في الإعداد والتجهيز لأن صنع الطعام لا يعرف إلا في المنازل ليس كما هو الحال اليوم من توفر المطاعم والمطابخ، لذا نسمع الضجيج والحركة، فأحاول أنا وأخي الصغير أن نظهر للوالد والوالدة أننا مستيقظان، فنكثر من التحرك والتقلب على الفراش، فيلاحظ الوالدان ذلك فيوقظانا لنشاركهم تناول السحور، وحينها يطلب من الوالد مختبرا بقوله: ما دمتما قمتما للسحور فغدا تصومان، فنصوم فلما يقترب الظهر تبدأ حرارة الجوع والعطش فنحاول أنا وأخي الشرب خلسة من الوالدين إلا أننا لم نستطع، وتزداد المعاناة أكثر فأكثر حينما نشاهد قطرات ترشيح الماء من الجرار تتساقط وقد ابتلت بالتراب تجذبنا ونحن في أشد حالات العطش فحاولنا ولكن لم نفعل في ذلك اليوم، ولما نجحت وأخي في اختبار صيام هذا اليوم ولاحظ معاناتنا كافأنا بتناول السحور معهم دون إجبار منه لنا بالصيام في الأيام التالية. «المدينة»: ما الشيء الذي تمنيتموه في رمضان في الأعوام الماضية ولم يحدث وتتمنون حدوثه في هذا العام؟ الحكمي: الأمنية على مستوى الأمة لا شك أن المسلم يتمنى أن تتوحد الأمة الإسلامية جميعًا وتتقارب وجهات نظرها في مختلف المجالات السياسية والفكرية وغيرها، وتحس بأن رابطة الإسلام لها تأثيرها في المجتمعات الإسلامية تخفف على الأقل من هذه الحالة المتردية للعالم الإسلامي، ونسأل الله أن يهيئ لهذه الأمة أمر رشد تتقارب فيه القلوب أولًا والتوجهات ليكونوا جبهة موحدة تجاه من يريد للأمة السوء والنيل منها، وأتمنى أن يفك أسر البيت المقدسي من براثن اليهود. وأما الأمنية الشخصية المتعلقة بالدنيا فأنا قنوع بما آتاني الله من فضله وأهمها نجابة أبنائي ولله الحمد فأبنائي كلهم سائرون بالمنهج الذي ارتضيه علما وسلوكًا، وأسأل الله أن يرزقنا شكر النعمة. * «المدينة»: يأتي رمضان هذا العام في ظل تغييرات عديدة في المنطقة العربية، منه ما هو إيجابي، ومنه ما هو سلبي، فما رأيكم كيف يمكن في ظل هذا الشهر الكريم تعزيز الإيجابيات والحد من السلبيات مستفيدين من العمق الإيماني لهذا الشهر الكريم؟ الحكمي: أتمنى أن يخف أو تزول حالة الضعف والتشتت، والسيطرة الوافدة علينا فكريا واجتماعيا حتى معنويا وماديا وحسيا، وفي هذه التغييرات في المنطقة فيها تنبيه للشعوب العربية والإسلامية ولولاة أمر المسلمين إلى أن عليهم أن يصححوا ما يمكن تصحيحه من الخلل الذي وقعوا فيه أو وقع فيه الناس، ويحققوا المطالب المشروعة الممكنة لشعوبهم، ونسأل الله في هذا الشهر وما فيه من روحانية وشفافية النفس ورقة القلوب أن تكون حافزًا إلى تصحيح الأخطاء، والبعد عن التوجه المادي المحض والتمسك بالقيم الإسلامية، ومن أهم ما يجب تصحيحه في رائي العمل على ازالة أسباب الفرقة، ومن أسباب الفرقة شيئان: جهل كثير من الناس الذين يدعون إلى الإصلاح بالمقاصد الشرعية في ذلك، فبعضهم يزعمون الإصلاح وفي الواقع أن ما يدعون إليه مخالف لمقاصد الشرع الأساسية، والشيء الثاني: هوى النفس، وهذا مشترك فيمن عنده علم بمقاصد الشرع ومن يجهل. «المدينة»: فما هو المطلوب والمأمول في واقعنا اليوم؟ الحكمي: واقع الأمة ضعيف بسبب عدم التزامهم بشرع الله على الوجه الصحيح، وواقع العلماء كذلك أيضا بسبب تجاوزات ممن ينتسب إلى العلم من طلبة العلم، والمطلوب والمؤمل أن يرجع الناس إلى أهل العلم الملتزمين بمحكم كتاب الله وسنة رسوله، والرادين لما يحتمل التأويل إلى هذا المحكم والنظر في مستجدات العصر بناء على هذا المنهج، وهؤلاء في الأمة موجودون ولله الحمد ولكنهم قلة.