في قوله تعالى: (فاستقيموا إليه واستغفروه) دليل على أن الاستقامة قد يلحقها نقص بحصول الذنوب والخطايا، فأُمر المؤمنين بالاستغفار، وعبودية الاستغفار تأتي في أول الطريق وفي وسطه وفي آخره، وقد دنا شهر رمضان وأقبل بوجهه البهيج وطلعته البهية، أقبل ليكفّر خطايانا ويقيم عوجنا ويغسل سخائم قلوبنا، أقبل ليقول لنا: من أراد أن يعفو الله عنه فليعفُ عن إخوانه، من أراد أن يسامحه الله فليسامح عباد الله، من أراد أن يغفر الله له فليغفر للمخطئين في حقه، من أراد أن يرحمه الله فليرحم الخليقة، أقبل رمضان لنتصافح ونتسامح ونتصالح ونتعانق وننسى الأحقاد والبغضاء والشحناء والقطيعة، أقبل شهر رمضان لتجوع بطوننا حتى نتذكر الجائعين من الفقراء والمساكين، أقبل هذا الشهر الكريم لنصوم عن الطعام والآثام والخصام والغيبة والنميمة، أقبل لتصوم العين عن النظر المحرم، والأذن عن السماع الباطل، والقلب عن الاعتقاد في القبيح والخطايا الشنيعة، ولتصوم الجوارح عن الذنوب والسيئات، أقبل رمضان ليذكرنا بنزول القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر؛ لأن القرآن سر عظمتنا ومجدنا وشرفنا، أقبل رمضان ليذكرنا أنه شهر الانتصارات للأمة المحمدية المرحومة المنصورة، ففي رمضان كانت غزوة بدر وفتح مكة وحطين وعين جالوت وغيرها من معارك الظفر والنصر، أقبل رمضان لنعرض رقابنا ونحن عبيد أرقاء مذنبون أمام ملك الملوك لا إله إلا هو علّه تعالى أن يرحمنا ويتجاوز عنا ويعتق رقابنا من النار، أقبل رمضان ليقول للأغنياء والأثرياء والوجهاء: إن في بيوت الطين والصفيح جائعين ومحتاجين وعطشى فجوعوا وقتاً من الأوقات كما جاعوا سائر الأوقات، أقبل رمضان لنصمت قليلاً عن الهذيان، وكثرة القيل والقال، والجدال ومخاصمة الرجال، أقبل رمضان لتجتمع الأسرة في البيت المسلم عند السحر والإفطار فيدعوا ويستغفروا ويتسامحوا ويتلوا كتاب الله، أقبل رمضان لتتوحد أمة الإسلام في القارات الست لتصوم شهراً كاملاً بالملايين المملينة من الرجال والنساء، أقبل رمضان ليصوم المسلم في اندونيسيا وتركيا والسعودية ومصر والمغرب وفي أوروبا وأمريكا واستراليا، نصوم جميعاً الغني والفقير والقوي والضعيف والرجل والمرأة والأبيض والأحمر والأسود والعربي والعجمي؛ لأننا كلنا عبيد أصلنا من طين وُخلقنا من ماء مهين ، أما الجلال كله والكمال أجمعه والجمال أوله وآخره فلله رب العالمين، له العظمة والملك والحمد والجبروت لا إله إلا هو، ولنا العجز والتقصير والخطأ والوهم والنسيان والذنب، فيا أيها المسلمون تعالوا نستغفر كثيراً قبل رمضان وفي رمضان وبعد رمضان، وكرروا كثيراً هذه الكلمة العظيمة الجامعة الشاملة (استغفرُ الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه) ففي سنن أبي داوود أن من قالها غفر الله له وإن كان فرّ من الزحف. تعالوا نعترف على بساط الربوبية وفي بلاط الألوهية وفي ديوان الصمدانية نعترف عند الواحد القهار بأننا أذنبنا وأسأنا وتجاوزنا ولكننا أقررنا واعترفنا عسى أن يغفر لنا ويسامحنا ويتجاوز عنا، تعالوا قبل رمضان لنقول كما قال أبونا آدم وأمنا حواء: (ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)، فعسانا أن نصحح صيامنا، وأن نصوم بالقلوب والجوارح، وتصوم معنا ألسنتنا التي آذتنا كثيراً وتأذى منها الناس، وتصوم أقلامنا التي سللناها بالتجريح والتشهير والإساءة، استقبلوا رمضان بالفرح والبشر والسرور لأنه جاء مناسبة للعفو والغفران والنجاة من النيران، جاء فرصة أخيرة لمن أراد أن يتوب ويراجع نفسه، هل من تائب إلى الله؟ وهل من مستغفر من ذنوبه؟ فسامحونا أيها المسلمون سامحكم الله واغفروا إساءتنا غفر الله لنا ولكم، اللهم من آذانا وسبّنا وشتمنا فاغفر لنا وله، وسامحنا وإياه، وارحمنا أجمعين يا أرحم الراحمين، اللهم إنّا عفونا عمن أساء إلينا ونحن الفقراء المذنبون فاعف عن إساءتنا وأنت الغني الواجد الماجد الذي لا تضره معاصينا، ولا تنقص ملكه خطايانا، ولا تنفعه طاعتنا، اللهم كما صمنا اتباعاً لهدي النبي الأمي صلى الله عليه وسلم اللهم فأوردنا حوضه واسقنا من يده شربة لا نظمأ بعدها أبداً، وبلغه عنا الصلاة والسلام كلما تعاقبت الأيام ودارت الأعوام وحل الصيام وانقشع الظلام، وعلى آله الطيبين وصحبه الميامين.