هناك شخصيات إسلامية لم يُعرف عنها الثراء في التأليف أو الكتابة، أو حتى الانخراط في العمل العام، حتى لو كان نشاطًا علميًّا، ومع ذلك كانت لها بصمة كبيرة في مسار الإحياء الإسلامي الكبير؛ الذي عاشته الأمة، خلال نصف القرن الأخير كله، على وجه التقريب، من هذه الأسماء التي تعلَق بالذهن، ويصعب نسيانُها، العالم الجليل الراحل الشيخ سيد سابق، لم تكن لي معرفة كبيرة بهذا العالم الجليل، فقط كنت من ملايين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ التي مثل كتاب «فقه السنة» أحد أركان مكتبته الصغيرة، وحتى بعد أن كبرت، كان هذا الكتاب البسيط أحد أهم دعائمها. لم يتيسر لي اللقاء به سوى مرة واحدة، كان فيها يعاني آثار الشيخوخة، وإرهاق السنين، ويقاوم بصلابة تراكم المتاعب والأمراض، ثم تُوُفي (رحمه الله)، ولم أُكمل مشروعي المأمول معه، وعندما سمعتُ بخبر وفاته حزنت مرتين، حزنت أولا لأنني فشلت في تعجيل اللقاء الأهم معه، قُبيل وفاته، حيث كنت مهتمًّا مع بعض الأصدقاء، باستجماع شهادات تاريخية من رموز الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة، وقد اتصلت بالفعل بعدد من أصدقاء الشيخ، ومن جيرانه، في حي مدينة نصر، حيث استقر به المقام، وكان يعطي درسه الأسبوعي، بين المغرب والعشاء. أحيانًا كانت صحة الشيخ لا تسمح بمثل هذا الحوار، وأحيانًا أخرى كانت تصرفنا الهموم إلى آخرين، من شيوخ الدعوة والحركة، تتسارع خطانا نحوهم؛ خشية أن يفارقونا قبل سماع شهاداتهم، حتى كان قضاء الله أسرع من تدبيرنا لمقابلة حوارية مع الشيخ (رحمة الله عليه)، والحزن الآخر لفقدنا عالمًا جليلًا، أثرى بعطائه وجهده حياتنا الدينية والفكرية، وكان كتابه الفذ «فقه السنة» علامة من علامات الدعوة الإسلامية، في النصف الثاني من القرن العشرين. لقد كان هذا الكتاب فتحًا جديدًا في «تقريب» الفقه الإسلامي من عامة أهل الإسلام، حتى أصبح ركنًا أساسيًّا من أركان مكتبة أية أسرة مسلمة معاصرة؛ لسهولة أسلوبه، وبعده عن المصطلحات الفقهية الصعبة والمتخصصة، واعتماده على ما أجمعت عليه الأمة، أو ما ذهب إليه رأي الجمهور، وابتعاده ما استطاع عن الغرائب والفرائد. والحقيقة أن حالة الشيخ سيد سابق وكتابه تمثلان دلالة هامة، على قيمة ارتباط الفقه بالوعي الحركي، في الدعوة الإسلامية، وحياة المسلمين عامة، فصاحب فكرة هذا الكتاب هو الشيخ حسن البنا (رحمة الله عليه)، ولم يكن فقيهًا متفرغًا، على ما كان له من العلم والفضل، ولكنه كان صاحب بصيرة حركية ورسالية مدهشة، عينٌ له على الكتاب، وعينٌ على واقع المسلمين، عرَف زمانه، وعرَف حاجاتِ أهله، وعرف طاقاتِ من حوله، فبدأ يوظف هذه الطاقات حسب الحاجات، وحسب القدرات. ومما يؤثر عن الشيخ سيد سابق: أنه ظل حتى آخر عمره، كلما ذَكر كتابه «فقه السنة»؛ الذي كان في بداياته مجرد محاضرات يلقيها على الشباب، قال: إنني حتى الآن كلما قلبتُ في هذا الكتاب أتعجب: كيف ألفته منذ خمسين عامًا أو يزيد، ولولا أن مخطوطه ما زال عندي ما صدقتُ أنني مؤلفه، وهذا يدلك على روعة وميض التوهج الذي كان يسري في أبناء ذلك الجيل، ولكن، أيضًا، هذا يدلنا على تقصير من الأجيال اللاحقة دون شك، عندما عجزنا طوال عقود طويلة- عن استيعاب الموهوبين والمتوهجين علميًّا وفكريًّا؛ من أجل أن نصنع من بينهم روادًا في كل فن، وأعلامًا في كل مجال. لقد غابت عنا تلك اللمحة العميقة والخاطفة؛ التي تصل بسرعة وسهولة، إلى معادن الذهب من الأجيال الجديدة، وتحتضنهم، وتبث فيهم طاقات التميز والتفرد، والسبق والسمو، كما أن الانقسام والتباين عاد من جديد، بين النشاط العلمي الشرعي وبين الاهتمام بواقع المسلمين، ونهوضهم، وتحدياتهم الحضارية والسياسية والاقتصادية وغيرها، وبالتالي افتقدنا إلى الكتابات العلمية الرائدة؛ التي تواكب اللحظة، وتستشرف المستقبل، وافتقدنا تلك النماذج الفذة من المؤلفات الجديدة؛ التي تجد الملايين من المسلمين يحتفون بها، ويُقبلون على اقتنائها، وتكون ركنًا ركينًا من خزانات الكتب، في بيوتهم ومكاتبهم. أخشى أن أقول: ضاعت البوصلة منا في مجال العطاء العلمي، فقلت البركة، رحم الله العالم الصابر، سيد سابق؛ الذي امتُحن في علمه، فوفقه الله، وامتُحن في صبره على المحن، فثبته الله، وجزاه عن أمته ودينه خير الجزاء. كاتب إسلامي.