ساهم الرسول صلى الله عليه وسلم في كل الأعمال من تحصين وحراسة ومشاركة في الحفر، ولم يكتفِ المنافقون بتوهين المسلمين بل كانوا يدعون المؤمنين إلى الاستسلام والتخاذل وترك القتال، ومشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم تظهر بعض الجوانب لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم العسكرية في ميدان الجهاد حيث إنه يأخذ بالأسباب من حيث الاستعداد بكل ما يستطيع وتنفيذ ما يتطلبه الموقف واستشارة أصحابه وتنفيذها، حيث إنه قائد لا يستبد برأيه، بل يستشير جنوده، ويأخذ برأي أحدهم عندما يراه حقاً أو رأياً مفيداً – سلمان الفراسي رضي الله عنه واقتراحه حفر الخندق. كما أنه متواضع يعمل كل الأعمال من تحصين وحراسة ومشاركة في الحفر ويبث في نفوس جنوده الثقة بنصر الله فيملأ قلوبهم حماساً ويشد عزامهم ويثبت نفوسهم في مواقف تضطرب فيها القلوب وتتزلزل النفوس حتى تبلغ القلوب الحناجر. وكان العمل يستمر طيلة النهار، ثم يأوى المسلمون ليلاً إلى دورهم ليأخذوا قسطاً من الراحة، وقد سيطر الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه على العمل، فلا يعود مسلم من عمله في الحفر إلا بموافقته شخصياً. وأتم المسلمون حفر الخندق الذي بلغ طوله أكثر من ( 5000 ) ذراع أي أقل من (3 أكيال ) وحددته بعض المصادر (2725) متراً وعرضه تسعة أذرع وعمقه سبعة أذرع إلى عشرة أذرع وكان على كل عشرة من المسلمين حفر أربعين ذراعاً وعلى كل واحد حفر أربعة أذرع، فتح الباري (3/397)، وبعد الانتهاء من عملية الحفر عسكر المسلمون إلى سفح ( سلع ) وجعلوا ( سلعاً ) خلف ظهرهم وجمع الرسول صلى الله عليه وسلم النساء والأطفال في بيوت قوية البنيان في منطقة أمنية داخل المدينة للإفادة من مناعتها في حمايتهم، ومنها حصن فارع لحسان بن ثابت رضي الله عنه، كما أمر صلى الله عليه وسلم باستخدام حصن بني حارثة لذراري المسلمين ونسائهم وصبيانهم وهدف رسول الله صلى الله عليه وسلم من استخدام حصن فارع وحصن بني حارثة لأن حماية جبهة الداخلية من الذراري والنساء والصبيان لها أثر فاعل على معنويات المقاتلين وذلك ليطمئنوا على أزواجهم وأبنائهم وبذلك يكونوا مرتاحي الضمير، هادئي الأعصاب فيبذلوا كل إمكاناتهم وقدراتهم العقلية والجسدية للإبداع في القتال، لذا قد هجروا البيوت الواهنة التي لا تساعد على الحماية والدفاع. وبعد إنجاز حفر الخندق احتل المسلمون مواضعهم خلف (الخندق) واستفادوا من مناعة جبل (سلع) لحماية ظهورهم وجناحهم الأيسر من التفاف الأحزاب من ذلك الاتجاه لقطع خط رجعتهم إلى المدينةالمنورة وضربهم من الخلف وتطويقهم. مع أن الأعداء (الأحزاب واليهود) قد أحاطوا بالمسلمين من جميع الجهات وتسرب الخوف والرعب في نفوس المسلمين وعبر عن ذلك بكل دقة القرآن الكريم قال تعالى :» إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) « وكانت مواقع الأحزاب واليهود كما يلي: 1- يهود بني قريظة: جنوبالمدينةالمنورة حيث نقضت يهود بني قريظة عهدها الذي كتب في الصحيفة المشهورة لأهل المدينة وخيانة بني قريظة مسألة مؤكدة بشهادة القرآن الكريم وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام ، يقول جابر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «من يأتينا بخبر القوم؟» فقال الزبير: أنا. فقال: « من يأتينا بخبر القوم»؟ «فقال الزبير: أنا. فقال: «من يأتينا بخبر القوم؟». فقال الزبير: أنا ثم قال: «إن لكل نبي حوارياً، وإن حواريّ الزبير». أخرجه البخاري، رقم (4113) . فذهب فأخبره أن القوم قد نقضوا العهد وقال: يا رسول الله رأيتهم يصلحون حصونهم ويدربون طرقهم، وقد جمعوا ماشيتهم. وإمعاناً من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الروية وعدم أخذ القوم بالظن، أرسل إلى بني قريظة سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبدالله بن رواحة، وخوّات بن جبير ليكلموهم ويناشدوهم في حلفهم، فدخلوا عليهم فدعوهم إلى الموادعة وتجديد الحلف، فقالوا: الآن وقد كسروا جناحنا، يريدون بجناحهم المكسورة بني النضير، ثم أخرجوهم وشتموا النبي صلى الله عليه وسلم شتماً. وجاء في رواية أخرى للواقدي أنه لما انتهى وفد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كعب، وجدوا القوم قد نقضوا العهد. فناشدوهم الله والعهد الذي كان بينهم. فقال كعب: لا نرده أبداً، قد قطعته كما قطعت هذا القبال، قبال نعله. (الواقدي 2/458 ). ( وتأملوا هذا المثل السيئ الذي تمثل به اليهودي كعب القرظي. وقد بدأت يهود بني قريظة خطوات تطبيق نقض العهد حيث أرسلوا حيي بن أخطب إلى قريش أن يأتيهم منهم ألف رجل ومن غطفان ألف، فيغيروا بهم ليلاً، فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم البلاء، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث سلمة بن أسلم بن حريش الأشهلي في مئتي رجل وزيد بن حارثة في ثلاثمائة يحرسون المدينة ويظهرون التكبير ليدخلوا الخوف والرعب في من يأتي متسللاً من يهود بني قريظة. وخرجت مجموعة منهم ليلاً - أثناء حصار المسلمين - يريدون المدينة عسى أن يصيبوا من المسلمين غرة فانتهوا إلى بقيع الغرقد فيجدون نفراً من المسلمين يدافعون عن المدينة فرجعوا، بل لم يكتفوا بهذا حيث أرسلوا بعضاً منهم إلى حصن حسان بن ثابت رضي الله عنه (حصن فارع )، حيث النساء و صبيان المسلمين، فقد روت صفية بنت عبدالمطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة: «فمر بنا رجل من يهود فجعل يطوف بالحصن وقد حارت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إن أتانا آتٍ.. ثم نزلتُ من الحصن إلى اليهودي فضربته بالعمود حتى قتلته». وهذا يدل على شجاعة صفية رضي الله عنها كما يدل دور المرأة المسلمة الحيوي في الجهاد، وعندما سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الخندق بنقض يهود بني قريظة العهد أخذوا يتعاهدون أهليهم بأنصاف النهار بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، فينهاهم، فإذا ألحوا أمرهم أن يأخذوا السلاح خوفاً عليهم من بني قريظة، وكان رجال من اهل العوالي (أي مجاورون ليهود بني قريظة) يرغبون في أن يطلعوا على أهلهم، فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أخاف عليكم من بني قريظة... من ذهب منكم فليأخذ سلاحه، فإني لا آمن بني قريظة، هم على طريقكم. وجاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: لقد خفنا على الذراري بالمدينة من بني قريظة أشد من خوفنا من قريش وغطفان، ولاسيما أن أهل أبي بكر رضي الله عنه بالسنح قريبة من يهود بني قريظة. لذلك فلم يكن أهل الآطام من ذراري المسلمين ينامون إلا عقب مناوبة خوفاً من بني قريظة أن يغيروا عليهم. هذا حال أهل أصحاب الخندق من النساء والذراري، أما أهل الخندق أنفسهم فلم يكونوا ينامون الليل إلا قليلاً أو كما قال خوات بن جبير: فكان ليلنا بالخندق نهاراً. (الواقدي 2/461). 2- المنافقون: وموقف المنافقين أخطر على المسلمين من غيرهم ذلك لأن هؤلاء المنافقين بين المسلمين ويعملون عملهم ولكن فتنتهم لا تظهر مباشرة ويؤثر ذلك تأثيراً بالغاً على أصحاب الخندق ويبث بينهم الخوف والاختلاف وظهر دور المنافقين في غزوة الأحزاب في: أ- تسللهم إلى دورهم وأهليهم أثناء الحفر وبعدهم وتركهم لما كلفوا به من أعمال بحجة أن بيوتهم عورة يخافون عليها من العدو ( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً (14) الأحزاب ب- شكّل المنافقون ما يسمى حالياً ب (الطابور الخامس) ببث الإشاعة بين المسلمين والكلام القبيح حيث قال أحدهم (وهو معتب بن قشير): يعدنا محمد كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط وما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً. ( الواقدي ، / 2/459). ج- الدعوة إلى الاستسلام والتخاذل: لم يكتفِ المنافقون بتوهين المسلمين بل كانوا يدعون المؤمنين إلى الاستسلام والتخاذل وترك القتال فالمنافقون كانوا يحرضون أهل المدينة والمقصود بهم بأهل المدينة الأنصار على ترك النبي صلى الله عليه وسلم وترك حماية الخندق من اقتحام المشركين. وهذه الأعمال التي قام بها المنافقون خلال غزوة الخندق تعبر عن صفاتهم الحقيقية التي وصفهم بها القرآن الكريم حيث تمتلئ قلوبهم بالشك والريب والوهن والاستعداد للهروب في أي لحظة من غير نظر فيما يترتب عليه خروجهم، سواءً عليهم أو على المؤمنين، فهم ينقضون العهد والمواثيق حيث إن من صفاتهم نقض العهد والمواثيق والحرص على الدنيا والتخاذل والتناصر من المسؤولية في أحرج الأوقات كما في غزوة الأحزاب وذلك يعبر على الجبن والخوف مع بخلهم في الإنقاق. 3- الأحزاب: وهم قريش وكنانة وغطفان وغيرها من القبائل: وعددهم عشرة آلاف وقد نزلت هذه القبائل المتحالفة في شمال المدينة حيث نزلت قريش في زغابة (غرب جبل أحد وجنوبه الغربي وشمال المدينة حتى الجرف ورومة ووادي العقيق) ونزلت غطفان (ذَنَبَ نَقَمَى) أي مفيض وادي النقمي شمال أحد وجزء منها شرق المدينة، ليشكل بذلك الأعداء إطاراً من الرعب حول المسلمين. وبهذا يكون جميع المسلمين محاصرين من جميع الجهات بعد نقض يهود بني قريظة للعهد. وقد شعر الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون هول الموقف وثقل المسؤولية، لذا فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في استمالة بعض رؤساء الأحزاب لتفريق كلمة أهل الباطل فأرسل إلى عيينة بن حصن الفزاري وهو رأس المشركين من غطفان وعرض عليه ثلث ثمر المدينة على أن يذهب بقومه غطفان ويخذل بين الأحزاب، فأرسل إليه عيينة إن جعلت لي الشطر أي النصف فعلت. (الزهري، المغازي النبوية ص 79 ). ثم رضي عيينة بن حصن ورفاقه من زعماء غطفان بثلث ثمر المدينة فجاءوا وقد أحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وأحضر الصحيفة والدواة وأحضر عثمان بن عفان لكتابة الصحيفة ودعا سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهما في الأمر وأخبرهما بما قد أراد من الصلح، ولكن السعدين لم يوافقا، وقالا: لا نعطيهم أبداً إلا السيف. ( الواقدي/ 2/477 – 479). وقد تسربت أخبار الاتفاق الذي لم يتم إلى يهود بني قريظة وبقية القبائل من قريش فسرى في جميع قادة الأحزاب شعورٌ بعدم الثقة وهنا ضعفت معنوياتهم واستعداداتهم القتالية.