أمر لا يختلف عليه اثنان، انه في هذا العصر أصبح الإعلام يشكل توجهات الأفراد، ويبني لديهم أفكارا تؤثر على نمط حياتهم سلبًا أو إيجابًا، ولا شك ان التلفاز في مجتمعاتنا العربية حتى الآن هو صاحب التأثير الأبرز والأقوى بين مختلف وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، وسبب ذلك ببساطة أن أمة اقرأ أصبحت لا تقرأ، لذا تجد الصغير والكبير يقضي الساعات يبحلق بما تعرضه إحدى الفضائيات العربية التي جعلت الكسب المادي والربح هدفها الأهم، حتى ولو على حساب عقول ومستقبل مجتمع هو في أمس الحاجة لسماع كلمة سواء علها تبذر الأمل والطموح لغد أكثر إشراقا، ولا جرم ان غياب ثقافة القراءة عن الغالبية الساحقة من بيوتنا، قد زاد الطين بلة وجعل شاشة التلفاز سيدة المكان، وهذا الغياب له عواقب وخيمة في ظل شاشة تعرض لنا كثيرا من الغث وقليلا من السمين، حيث إن ضحالة الثقافة لدى المشاهد تجعله يترنح أمام ما يعرض، لأنه لا يستند على وعي ودراية تمكنه من انتقاء المفيد، لذلك قد يحلق بعيدا في فضاء قناة ما جعلت تعاليم الدين وقيم المجتمع على هامش الاهتمامات، وليس سرا ان المادة الهادفة والقيمة لا تقدمها سوى فضائيات قليلة جدا، في وقت تتكاثر فيه الفضائيات العربية بشكل سريع ولافت، ومن لا يضع له قائمة تحوي قنواته المفضلة، فإنه سيظل تائها إلى ما لا نهاية في عالم غريب تنفره الفطرة الإنسانية السوية، فمن أغان راقصة جعلت الجسد سلعة رخيصة لجذب ما يمكن جذبه وإغراؤه، ليكون مصدر دعم ودخل لمثل هذه القنوات بما يرسله من رسائل لها، إلى مسلسلات وأفلام جلها يدور في فلك الحب والغرام والعلاقات غير الشرعية، ولم يكتف أرباب تلك الفضائيات بما يُنتج في محيطنا العربي رغم ان«اللي فينا كافينا» بل عبروا قارات العالم يترجمون ويدبلجون ويعرضون للمشاهد العربي، بحجة «الجمهور عاوز كذا» التي أُريد بها باطل، أما البرامج فالغالبية العظمى منها مستوردة. لذا من الطبيعي كونها تحمل ثقافة أولئك القوم، وليتها فيما يخص تطورهم التقني والصناعي والعلمي بل ان تلك البرامج إلا ما ندر تُصور الجانب المظلم في حياة تلك الشعوب. وحتى نلتقط صورة واقعية عما تقدمه وتغرسه بعض البرامج في النفوس، نتساءل ما هو المتوقع من طفل يشاهد أطفالًا مثله يتنافسون في حفظ وتأدية أغاني الفنانين وسط تصفيق حار وتشجيع كبير؟ ثم ما هي اهتمامات وطموح شاب يرى مادة إعلامية تدغدغ مشاعر وأحاسيس قد تدفع بصاحبها نحو هاوية الخطيئة؟ ولنحاول ان نتخيل حال أجيال يُقدم لها الفنان والرياضي والشاعر وكأنه قدوة ومثال للشخص الناجح، وتُسلط عليه الأضواء، لدرجة تُشعر المشاهد انه لا شيء طالما انه لا ينتمي لهذه الفئة، طبعا أنا أحترم هؤلاء ففيهم من يقدم الوجه الجميل والهادف في مجاله، ولكن بالمقابل لماذا الأضواء تتجاوز النخب والمثقفين والشباب المبدعين الذين قد تتفتق عقولهم عن إنجازات وأفكار تؤسس لجيل يحمل هم العلم والمعرفة؟ وحتى نكون منصفين، لن ننسى ان ثمة فضائيات اتخذت على عاتقها تقديم النموذج الرائع للإعلام، حيث ان ديدنها الفكر النير، وطرح القضايا ومعالجتها بطرق علمية حديثة، تبشر ببزوغ فجر جديد يقشع ظلام التخلف والتأخر، ولو كان المجال سانحا لذكرت هذه القنوات، لأنها فيما يبدو لي قد لا تتجاوز عدد أصابع اليدين، مقابل مئات القنوات الأخرى. م. عايض الميلبي - ينبع