اتجهت كرة الطفل للطريق المنحدر ، راح يتبعها بكل حواسه لا ينظر لشيء إلا لكرته أين ستستقر ، ركض خلفها و حين انحنى للإمساك بها كان قائد الشاحنة المخمور ينطلق بسرعة جنونية من الجانب الأعلى للطريق حيث فاجأه المنحدر و لم يستطع السيطرة على المقود و استحال التوقف ، دهس الطفل على مرأى من والدته التي كانت تصرخ على الضفة الأخرى ، و تجري باتجاه الطفل فيمنعها المرافقون ، انهارت الأم ونقلت للمستشفى تحت الرعاية الفائقة ، و بقيت زمنا طويلا تتجرع حسرات المشهد الأخير و الوداع القاسي ، ماذا لو لم يمت ؟ ما الضرر لو أنه بقي في حضنها العمر كله ؟ كانت ستمنحه العمر كله ، أليس حضنها الدافئ أولى به من وحشة القبر و فظاظة الدود الذي سينهش جسده الرقيق غير آبهٍ بعينيها الغارقتين و قلبها المشتعل كمدا و شوقا ، لم لا يعود ؟ يزداد الحزن و يشعل التساؤلات حد الاحتراق ، حد الموت ! مر على دفنه عدة أشهر ، و قد زارها مرارا في المنام، كان يبكي خوفا من ظلمة القبر ، و يتوسل أن تسرع بنبش قبره و إعادته لحضنها ، و كانت تصحو في كل مرة و تجد يديها متشنجتين من شدة الحفر ، قال الجار -الذي يعرف أسرار المنطقة - لوالد الطفل : إن قبر الابن ضمن مقبرة أزلية و الموتى يعودون إذا ما نبشت قبورهم لكنهم يعودون و قد سكنتهم روح شريرة ، فلا يعود الأحباب أحبابا ، كان الحب أكبر من كل المخاوف و المحاذير ، و ما عسى طفل بريء أن يفعل حتى لو انقلب عدواً مبيناً ؟! أصر الأب على استعادة طفله ، نبش القبر و عاد لمنزله واستلقى يناجي طفله و ينتظر، في منتصف الليل فتح الباب طفل صغير وجهه كوجه طفله و ملابسه كملابسه و بحذاء وحيد و قد فقد طفله الحذاء الآخر يوم الحادث ، دخل المطبخ و فتح خزانة الأواني و أخذ سكينا و اتجه لغرفة الوالدين ، صرخت الأم مرحبة فانهال عليها بالسكين .. وقتلها ليبادر الأب بقتله ! قصة فيلم فلسفي جميل بقسوته و مفارقاته ، ربما كانت تحاول أن تقنعنا بأن لا ننبش قبور الأحلام المقتولة ، فالموت يدخلها مرحلة مختلفة و عودتها لنا لن تكون كما عهدناها من قبل أبدا ، و لربما استمتنا في استعادة ما نفقده لنموت على يديه ( رب حتف امرئ فيما تمناه )، كثير من الأحلام الفائتة فاتت لأنها ليست جديرة بالبقاء و النماء ، تماما كسقوط الجنين المشوه ، ولأن أحلاما أخرى بانتظارنا ، الطفل في الفيلم يشبه علاقاتنا التي لم يكن شركاؤنا بها كما أملنا ، يشبه الحب الفاشل و الصداقة المرهونة بمنفعة يشبه كل شيء نفقده ونحن نحبه و لا نملك فراقه ، هذه الأشياء لا يجب أن نوقف الحياة من أجلها ولا أن نرهن السعادة بها كثيرون ممن ظنوا أنهم لن يتمكنوا من العيش مجددا إلا بعودة ما فقدوه ، و حفروا القبور و اللهفة تستعر في قلوبهم ، و فتحوا الأكفان فقتلتهم الجثث ! ليس للموتى إلا القبور ، و للأحياء جميل الصبر و عظيم السلوان . [email protected]