ثمة معانٍ عظيمة في الحياة لا يتنّبه لها حتى العظماء أحيانًا بسبب زحمة الحياة وكثرة المشاغل، مع أن أشد الناس حاجة إلى هذه الجوانب النقية الخفية هم المسؤولون وحملة الأمانة. وذكرت في مقال الأمس كيف كان معاوية رضي الله عنه سيدًا بعفوه وحلمه أكثر ما كان بجاهه وسلطانه، وكان يقول: (إني لآنف أن يكون في الأرض جهل لا يسعه حلمي، وذنب لا يسعه عفوي، وحاجة لا يسعها جودي). وإن كان العدل سيد الأحكام، فإن العفو هو القيمة المضافة للعدل، وهو الذي يرتقي به الدرجات العلى، وهو الذي يخلد في ذاكرة التاريخ، وفي صدور الحكماء وفي ميزان الحق تبارك وتعالى. بالعفو تُطوى صفحات من الشحناء وتدفن أسفار من البغضاء، بل تُكسب القلوب وتشرق النفوس وتلتف الجموع. ولولا أن العفو خصلة غالية وخلق رفيع ومكانة سامقة لما تميز بها أناس عن أناس. أصحاب العفو هم القلة القليلة، هم كالبدر ليلة الظلماء وهم كالنجوم في عباب الصحراء يستدل بهم الخلق وتطرب لذكراهم الأفئدة. بهذا ساد معاوية معارضيه.. وها هو يكتب إلى عقيل بن أبي طالب معتذرًا فيقول: (يا بني عبدالمطلب أنتم والله فروع قصي ولباب عبدمناف، وصفوة هاشم، فأين أخلاقكم الراسية، وعقولكم الكاسية، وقد والله أساء أمير المؤمنين ما كان جرى ولن يعود لمثله إلى أن يغيب في الثرى)، ثم شدّ معاوية رحاله إليه، وناشده الصفح عنه واستعطفه حتى رضي عقيل وصفح. [email protected]