أصدق الناس تعبيرًا هم الأطفال، لا يكذبون ولا يتجمّلون، بل هم تلقائيون يعبّرون عن انفعالاتهم وعواطفعهم بعشوائية مطلقة لا تقيّدها حدود، فنحن من نعلّمهم الكذب بدعوى التجمّل، ونعلّمهم الكبت بدعوى الاحترام، مع الوقت برزت أهمية التعبير عن الذات والتنفيس عن الانفعالات بدلًا عن خنقها وهنا بدأ فعليًا في آخر السبعينات الميلادية العلاج عن طريق الفن كأنجع أسلوب للعلاج النفسي. في مرة تركت أطفالي وهم في فترة «طفش» فملأت لهم سطول ماء وكمية هائلة من ألوان القواش وورق وفراشي الرسم وتركتهم يرسمون ويلونون كيفما شاءوا لساعات طويلة فشاهدت أصدق تعبير وأجمل ألوان وأبرأ فنون. رسموا الحياة بكل ما فيها من تآلفات واختلافات، رسموا الإنسان بكل أوضاعه الفيزيائية وحالاته النفسية فكانت أجمل رسومات رأيتها في حياتي لم أراها لأعظم الفنانين العالميين في أكبر المتاحف والمعارض، أصغر أطفالي كان عمرها ثلاث سنوات رسمت عشرات من البورتريهات البريئة صغيرة المقاس فاقت في التعبير عن الإنسان وخفاياه أكثر من كبار الفنانين الذين أقاموا معرضًا عن فن البورتريهات في جدة آنذاك، ولما شاهدها البعض شكّوا فيمن صنع تلك اللوحات الصغيرة لأن فيها براعة غير عادية. ومرة أخرى أرسلت مجموعة لوحات تعبّر عن العنف ضد الأطفال لمسابقة دشنتها وزارة التربية والتعليم فوصلت لأجهل وأغبى منظمين لمسابقات الفنون في العالم، حيث اتصل بي القائم على تلك المسابقة وذكر لي أن اللوحة تنقص 2 سم عن الشروط وأن منظر الدم في اللوحة كثير واستجداء الآخرين لنجدة الطفل في اللوحة زائد عن الحد ويطلب إعادة رسم اللوحات بقليل من منظر اللون الأحمر للدم وإخفاء علامات التشوهات في الجسم جراء الضرب والتعذيب في الوجه وباقي الجسم للأطفال في اللوحة وكأنه يطلب مني أن أقنع أطفالي بالتجمّل ورسم صورة هو من يفصّلها وهم يخيطوها له. فهو لا يعلم أنني شحنت أطفالي انفعاليًا للتعبير عن هذه القضية عن طريق مقالات صحفية فيها قصص واقعية مصحوبة بصور عن تعذيب الأطفال داخل بلدنا وأن بعض أولياء الأمور لا يستحقون أن يكونوا مسؤولين عن القوامة لعائلة محترمة. ولما أبلغتهم عن اتصال مسؤول تلك المسابقة وطلباته ذكروا لي بصراحة أنهم لا يستطيعون التعبير عن هذه القضية بهذه الشروط الغبية وسألوني كيف ننسحب من المسابقة بسرعة. ولما اتصلت به لاحقًا طالبًا منه استرداد الأعمال الفنية أبدى استعداده ولم يفِ بما قال حتى حينه، وأنا أدرك تمامًا أن مصير تلك الأعمال وغيرها الكثير هو أقرب سلة قمامة، وللإجابة عن ذلك السلوك ببساطة هو أن مجتمعنا لا زال يعيش في نفس الفترة التي كانت فيها جارة فان جوخ الغبية تضع أجمل لوحاته في حظيرة الدجاج كجدار لتفصلها عن بعضها، ولما عرفوا ذلك ورثتها تمنّوا قتلها قبل فعلتها تلك. حقيقةً أسرد تلك القصص لأؤكد أهمية إبعاد غير المتخصّصين والمبالين بالفن والإبداع عن أي مشروع ومسابقة فنية وأدبية وإبداعية، فهم لا يفرقّون بين الإبداع الفني والأدبي والجمالي والعلمي عن الإبداع في تأدية الفرائض فالبنسبة لهم كل ذلك بدع لا بد من مقاومتها ولا يرضون بسهولة لإعادة التأهيل أو الأقناع بل ولديهم قدرة على إقناع الغير لدعم أخطائهم بكل أسف، وهم أنفسهم من يقيّد إبداع الفنانين بشروطهم ومعاييرهم الضيّقة والمحدودة جدًا منذ طفولة الفنان حتى كبره، وهنا بدأ النزاع بين الطرفين. [email protected]