تتسارع الأحداث في عالمنا العربي بشكل جعلت الكثير من المراقبين يقفوا عاجزين عن اللحاق بها، بحيث اقتصر دورهم على تتبع أجوائها ومحاولة تفسيرها والتعليق عليها، في مشهد شبيه بمعلقي المباريات الرياضية على أحسن الأحوال، على أن ذلك وإن كان مطلوباً في الوقت الراهن، إلا أن تطور الأحداث الحالية في عالمنا العربي يفرض البحث في أسباب الأزمة، وليس في وصف تداعياتها، التي ليس لأحد القدرة على إيقافها، ذلك أن حركة الشعوب كتدفق السيول الجرارة، وبالتالي فنحن في أمس الحاجة مع هذا التدفق الجماهيري، لأن ننعتق من مختلف القراءات التقليدية للأحداث، الآخذة في اعتبارها لكثير من الحسابات والمعادلات، دون أن تدرك بأن من طبيعة السيول أن تكون جرارة؛ وأصبح لزاماً علينا الانكشاف على مختلف التطورات الحاصلة بذهنية جديدة معاصرة مدركة لحقيقة التغيرات، حتى يتسنى لنا فهمها ومن ثم التعامل معها بإيجابية. وفي تصوري فإن الناس لا تهتم إلا بتحقيق ثلاث احتياجات رئيسة، وهي الأمن والصحة والرزق، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من بات آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)؛ هذه هي احتياجات الناس التي لم تدرك بعض الحكومات في عالمنا العربي أهمية تحقيقها لشعوبها حتى الوقت الراهن، وتصورت أن سياسة تكميم الأفواه والقمع الأمني ستنجح في إخماد أي توتر قد يحدث، وكان كمال الغرور حين قرر بعض منها التعامل مع احتياجات الناس الرئيسة وبالأخص في الجانب الاقتصادي والصحي بسياسة اقتصاد السوق، فكان تحالفها المشين مع ملاك السوق على حساب مصالح مواطنيها، فتم التضييق عليهم وتحجير قُوْتِهم اليومي، والتعامل معهم بالعقلية الرأسمالية، ذلك الاقتصاد الذي لا تعرف حساباته سوى قانون الربح الجشع على أي حال وفي كل حال، دون مراعاة لكثير من الظروف، ودون الاهتمام بمختلف الجوانب الإنسانية، وما شاهد انهيار سوق العقار في الولاياتالمتحدةالأمريكية إلا مثل على ذلك؛ فكان أن سحقت مختلف الطبقات الاجتماعية تحت أقدام سياسة ما سُمي باقتصاد السوق، ليزداد الغني غنى، ويزداد الفقير فقراً، ويبدأ معها انتهاء الطبقة المتوسطة، وتلاشي دورها اللوجستي في بناء الدول وتنميتها بشكل عام. عند هذا لن يكون أمام الناس إلا الانفجار في مشهد دراماتيكي لا تُحمد عواقبه ولا يُمكن التحكم بنتائجه. إن الأزمة الاقتصادية الخانقة من أكبر الإشكالات التي تعيشها بعض شعوبنا العربية في الوقت الراهن، وهو ما لم تدركه بوعي وإدراك العديد من تلك الحكومات، ذلك أن الناس بوجه عام ليسوا معنيين بمجموعهم بتحقيق مختلف الاحتياجات الحقوقية المعنوية من حرية وعدالة إلى غير ذلك من الاحتياجات التي تطالب بها النخب بوجه خاص، لكنهم مهمومين بتوفير الحد المقبول من احتياجاتهم الصحية والاقتصادية وجانب من العدالة الاجتماعية، التي تمكنهم من العيش بكرامة؛ وهو ما أدركته مختلف الأنظمة السياسية الغربية، فعملت على توفير ذلك بالقدر الكافي، واستوعبت بحسها السياسي الدرس المستفاد من أحداث الثورة الفرنسية، تلك الثورة التي ابتدأت شرارتها حين لم يجد الشارع ما يفي بأبسط متطلباته الاقتصادية، وتوقدت نارها حين أغفل الحكم استيفاء مطالبها، وأدار ظهره عنها، وأبدى تجاهلاً عجيباً بطبيعة كينونتها، إلى القدر الذي دعت فيه الملكة «انطوانيت» شعبها الغاضب باستفهام استنكاري إلى أن يأكل البسكوت بدلاً عن الخبز. فكان من جراء ذلك أن انبثق عهد جديد على أوروبا، تقوم أركانه على سياسة ارتضاء مبادئ العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكومين، وتكونت نتيجة لذلك ملامح الأنظمة الجمهورية، القائمة على مفهوم التداول السلمي للسلطة بين مختلف الأحزاب السياسية التي تمثل اختيارات الجماهير، وتعكس توجهاتهم ومتطلباتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ في الوقت الذي أغفلت عديد من أنظمة الحكم الجمهوري في عالمنا العربي لحقيقة جوهر هذا النظام، فاحتفلت به على الصعيد الشكلي، لكنها تجاهلت قيمته على الصعيد الجوهري، مما كانت له انعكاساته السيئة على بعض المجتمعات، التي عانى إنسانها من تسلط وحكم فردي غير مستساغ، فهل قد آن الأوان لأن تدرك بعض الأنظمة العربية خطورة المساس بمثلث الاحتياجات الإنسانية الرئيسية؟ أرجو ذلك قبل أن تنفرط السبحة، ولا ينفع الندم حين لات مناص. [email protected]