كنا نفرح بالمطر، باعتباره رحمة تنزل من رب العالمين، تروي الأرض والشجر، وتنعش الروح؛ بكل الأجواء الجمالية التي تكتنف يوما ماطرا جميلا. (يا مطرة رخي رخي) أنشودة شعبية جميلة يرددها الصغار في مواسم المطر، رددتها الأجيال المتعاقبة، إمعانا في طلب المزيد، أي المزيد من الرحمة. أما بالنسبة لهذا الجيل من أبناء جدة، ربما لا يعرف كلماتها ولا مناسباتها، وإن عرف لا يجرؤ على النطق بها، خوفا ليس من المطر بل مما يعقب المطر! تمتلئ الشوارع بالمياه وتتدفق تغرق كل شيء، الأنفس والممتلكات، يفزع الصغار في مدارسهم، ويهرع الآباء والأمهات والرعب يسبقهم، وتنعزل الأحياء، ويعجز الناس عن التواصل أو الوصول إلى أعمالهم، كيف إذن تسخو الحناجر بأغنيات المطر؟! كل السنوات التي عانت فيها جدة وسكانها من طل خفيف، جبّتها كارثة العام الماضي، وأصبحت هي الصورة، ليست فقط الحاضرة في الأذهان والوجدان، بل محفورة عميقا حد الألم. رغم ذلك، تكررت الصورة، صحيح بشكل “غير” مأساوي، لكن مخز. بعد عام كامل على كارثة سيول أربعاء جدة الشهيرة 2009م - 1431ه؛ مازال نفق الملك عبدالله الذي شهد كارثة من نوع خاص العام الماضي، عندما امتلأ بمياه السيول بصورة مباغتة، وغرق فيه عدد من الناس مازال على حالته بدون تصريف، وبمشكلة لم يبت في حلها، إلا بطرق بدائية، تفتقت عنها ذهنية موظفي الأمانة فأغرقت ما حولها من أحياء سكنية -المشاهد صورتها سبق ونشرتها على «اليوتوب»- ولا أعرف كيف سيعالج هذا الأمر؟ هل سيعوض المتضررون أم أنهم يقبلون أيديهم «وجه وقفا» ويلوذون بالصمت على سلامة الأرواح، والنجاة من الغرق؟! مخطط أم الخير غمرته المياه ولاذ سكانه بالأدوار العليا، وأنقذوا بالطيران العامودي. الشوارع امتلأت بالمياه حتى مناطق الشمال التي تبدو منسابة وحريرية، لكنها غرقت وبعد ذلك انكشفت عورتها، وبدأت الشوارع متربة ومفروشة بالحفر، والأرصفة نزعت بلاطاتها وبدت في صورة مزرية. ننام في العسل حتى يدهمنا موسم المطر، فنهرع ب (وايتات) الشفط، وسيارات الدفاع المدني، وحمولة سيارتين أو ثلاث مخلفات بناء، نردم بها الفجوات، ومكامن الخطر! هل يمكن لنا أن نفرح بهطول المطر؟ وهل يملك أولادنا وأحفادنا الحق في الغناء بمرح: “يامطرة رخي رخي على قرعة بنت أختي” لأن بنت أخته جابت ولد سمته “فساد”. تمنيت لو أن التلفزيون بث مراسليه في الشوارع، وأنزلهم مع طائرات الانقاذ، ولا أجدع برنامج واقعي مما يعرف بتلفزيون الواقع، الذي تكلف ميزانيته الملايين. في جدة وفي يوم ماطر تعيش الواقع، واقع على رؤوس الغلابة، بدون تكاليف سوى رصد صادق ومحترف لما يحدث في جدة لحظة وبعد وقبل هطول المطر! أسئلة بسيطة جدا، مثلا: ما هو شعورك وأنت تشاهد سيارتك تغرق؟ ما هو شعورك لو كنت تغرق؟ أو ما هو شعورك وأنت تعيش تجربة سيل العام الماضي؟ وما هو شعورك لو كنت من سكان مخطط أم الخير؟ حتى الاسم لا يناسب المسمى، لكنه اسم تسويقي لتسويق المخططات في مجاري السيول؟ يستطيع أيضا قراء الطالع الذين يحتلون شاشات الفضائيات والعالم يلملم ساعاته ويمضي موغلا في عمر الزمان، أن يركزوا نبوءاتهم وتكهناتهم بمستقبل جدة في مواسم المطر. جدة التي تعاني من الأمراض، بينما يسري عصب الألم في حياة سكانها، ورغم كل وصفات العلاج لا تبرأ ولا تندمل، لذلك تئن وتغرق من رخات كثيفة من المطر، أما إذا كان مصحوبا برياح سريعة أو حتى بطيئة، يتهاوى أمامها الشجر! ينظر قارئ الطالع في البلورة السحرية، وعلى وجهه «امتعاض» يهدل وجنتيه، ويزم عينيه ثم ينظر بأسى قائلا: الشجر عندما غرس في العهود الأمينية الغابرة... يصمت ويزدرد ريقه ثم يهمس والأسى باد على وجهه، حتى الشجر ويحرّموا علينا عيشتنا! تسأله المذيعه الشقراء: ماذا تقصد بالعهود الأمينية الغابرة؟ ينظر إلى البلورة وبصوت كالهمس يقول: من زرع حصد.. من زرع حصد.. من زررررر بم بم تنفجر البلورة ويرتفع الدخان يغطي الشاشة! لنترك قراءة الطالع والدجل، ولنكون أكثر علمية لندرس الأسباب التاريخية، هكذا قالت المذيعة بعد أن مسحت عن وجهها الفتان هباب الانفجار السحري، والتفتت إلى الضيف قائلة بحزم: الدراسات التاريخية، هي الحل، لأن الدراسات الجغرافية لمدينة جدة حفظناها عن ظهر قلب من العام الماضي. عرفنا الأودية، ومصباتها وتفرعاتها، والأخطاء المتراكمة، ومع هذا بقي الحال على ما هو عليه! تنظر إلى المشاهدين والشرر يتطاير من عينيها وتشير بسبابتها قائلة: يبقى السيد تاريخ لا بد من حضوره حيا أو ميتا ليخبرنا من أمر بعدم تجذير الشجيرات؟ ومن المتسبب في سقوط الشجر مع هفة ريح؟ من أمر بتركيب قشرة البلاط على الأرصفة؟ أو من المتسبب في خلخلة وخروج البلاط من على الأرصفة؟ من المتسبب في هذه القشرة الرهيفة من الأسفلت التي تجرفها المياه في أول موسم المطر؟ هل فهمتم لماذا نحن نحصد كل هذا عبر كل السنوات الماضية؟ لأن الفساد حول النعمة إلى نقمة! المطر، تربت أسماعنا على أنها «رحمة ربي» وهي رحمة نرجو من الله ألا يمنعها أبدا مهما غرقنا. صورة أخرى محبطة لسكان جدة، تمنع عنهم جرعة قليلة من الفرح والمتعة، قبل هطول المطر، وهم يهرعون بسياراتهم إلى البحر، لكن البحر بعيد عنهم بعد النجوم في السماء! تلك الحقيقة التي أدركتها في يوم غائم جميل، تحفزت للخروج بصحبة ابنتي لمطعم وحيد يحتل مساحة كبيرة على البحر، لكن للأسف لم نصل إلى المطعم إلا بعد أن امتلأ، فاضطررنا للسير على الكورنيش، ورأيت البؤس الذي تعيشه الأسر، وهي تبحث عن فرجة في الأسوار التي تحجب البحر، ورب الأسرة يسحب «السجاد» بيد ويحمل بالأخرى السلال ويمشي مسافات وحوله الصغار والنساء كل منهم يحمل في يده أثقالًا ليستمتعوا بالجو والبحر، لكن حلمهم تبدد. للأسف هذه لقطة واحدة فقط! شعرت بالحزن وعدت إلى البيت ولم أجن سوى زحمة السير، ورؤية تلك المناظر البائسة التي توجع القلب! كل موسم مطر وأنتم أسعد حالا ونوم هادئ في العسل! [email protected]