كأن حياة (الفقر والمرض وفقدان الأب) لم تكن كافية لتحطيم حياة وجسد المواطنة بخيتة (80 عاما) في نجران، بل شاءت الأقدار أن ترمي لها معضلة كبرى تمثلت بضاع الهوية الوطنية لأبنائها وبقائهم مجهولي الهوية محرومين من أبسط الحقوق الوطنية والإنسانية، هذه المعضلة التي أجبرتها على الاستسلام للبؤس والمعاناة، حيث لم يعد أمامها إلا استصراخ الضمائر الحية لإنقاذها من قيض الأنين وجحيم الشقاء، ولكم يزداد ألمها كل يوم عندما ترى من يقومون بخدمتها وهم مجهولو الهوية رغم معرفتهم الاكيدة أنهم نشأوا وترعرعوا على تراب هذا الوطن، أي حياة تعيشها هذه الام وأبناؤها؟! أب مفقود منذ أكثر من عشرين عامًا لا يعلمون عنه شيئًا ولا يعرفون حتى ملامحه فيتذكرونها لطول المدة، وأم مريضة بأمراض مزمنة أصبحت “رهينة المحبسين” العجز والشيخوخة وحتى الأبناء يعيشون ظروفا مختلفة عن كل أقرانهم فلا معنى للرفاهية في حياتهم، ولكنهم يؤكدون أن أبسط حقوقهم الانسانية لا يعرفونها يعيشون على ضمان والدتهم الطاعنة في السن بمبلغ لا يتجاوز 900 ريال شهريا، كل شيء فقدوه وما يؤلمهم أكثر افتقادهم للوطن بسبب فقدان الهوية التي فقدوها برحيل والدهم منذ أكثر من عشرين عاما، إلى مكان لا يعلمونه، قصة إنسانية وقفت “المدينة” على تفاصيلها ووثقتها بالصور. فتعالوا بنا نقرأها بقلوبنا ونتأملها بضمائر تعيد للانسان إنسانيته. المنعطف الأكبر: بخيتة مواطنة سعودية تبلغ من العمر نحو 80 عامًا تزوجت قبل نحو 45 عامًا بمواطن -على حد قولها- أنجبت منه ولدين وثلاث بنات حسب صك إثبات البنوة. تقول المواطنة بخيتة: إن زوجها غاب قبل أكثر من 20 عامًا، إذ أخبرها أنه سوف يذهب لزيارة والدته ومنذ تلك اللحظة التي خرج فيها لم يرجع إليها ثانية، ولم تعرف عنه شيئا حتى اللحظة، وتضيف: بحثت عنه في كل مكان وأعلنت في الصحف المحلية وسألت عنه في كل مكان ولكن مصيره بقي مجهولًا حتى اليوم لا أدري إن كان ميتًا أو على قيد الحياة. أما ابنتها الكبرى (عيدة) فتقول: عندما غاب والدي كان عمري في ذلك الوقت قرابة 12 عامًا، ولم أكن أدرك الأمور جيدًا لدرجة أنني لم أعد أتذكر ملامحه نهائيًا، وتضيف بصوت يملؤه الأسى والحزن: إن غياب والدي سيظل جرحًا في الروح وفي جنبات الذاكرة بعد أن تركنا لهذا المصير المجهول الذي نعيشه ونتجرع مرارته حتى اللحظة. وتكشف عيدة عن أن أمها جرى تطليقها عام 1410 في محكمة نجران غيابيا وهو ما يؤكده صك الطلاق من المحكمة بنجران. الأبناء والدراسة. ويقول الابن (ناصر) الثالث في ترتيب العائلة: إن معاناته وأخوته مع الدراسة كانت هاجسا كبيرا يضاف إلى معاناتهم الكبيرة، التي يمرون بها لدرجة أن شقيقاته (عيدة، مريم، يسرى) لم يكملن تعليمهن بسبب عدم وجود إثبات لهويتهن. ويضيف ناصر: على رغم أن الرحم الذي حملنا سعودي والمكان الذي ولدنا فيه سعودي والتراب الذي مشينا عليه سعودي لم يشفع لنا ذلك، فعيدة ومريم توقفتا عند الصف الثالث ثانوي بسبب عدم وجود الهوية، التي تعد شرطا أساسيا لهذه المرحلة، وكذلك هو الحال بالنسبة ل (يسرى)، التي توقفت عند المرحلة المتوسطة، أما أنا فقد توقفت عند الابتدائية بسبب كثرة مطالب المدرسة لهويتي، مما انعكس على نفسيتي بين الطلاب، وكذلك أخي (محمد) فقد توقف هو الآخر بعد المرحلة الابتدائية. مرض العائلة: تعيش المواطنة بخيتة وأبناؤها الخمسة وضعًا إنسانيًا صعبًا؛ فالمرض أخذ حيزا كبيرا في حياتهم، الأم مريضة منذ عام 1425 ه بجلطة في الجانب الأيسر من الدماغ وارتفاع في ضغط الدم وتشنجات في المخ، كما بيّن ذلك التقرير الطبي، ولم يقتصر المرض على الأم (بخيتة) بل امتد إلى الابن (محمد)، الذي يعاني من مرض نفسي أكد أخوة ناصر أنه بسبب الحالة التي تعيشها الأسرة فقد كان كثيرًا يندب حظه على وضعهم ومحاولتهم إيجاد حلول لوضعهم إلا أن جميع الطرق كانت مغلقة في وجوههم، وهو ما أثر على شقيقه منذ 11 عامًا، إذ كان يبكي وهو في سن العشرين من عمره على وضعنا ووضع والدتي. حلم الزواج: كل فتاة تحلم بفارس أحلامها والعيش في بيت الزوجية كسنة من سنن الله في الحياة، وهذا حق مكتسب في جميع الشرائع السماوية والقوانين الوضعية كحق من حقوق الإنسان، لكن (عيدة، مريم، يسرى) محرومات من كل هذا، فقد تقدم لهن الكثير من الرجال “موظفون وغيرهم”، ولكن في كل مرة كانت الهوية تقف في طريقهم وتسلب منهم حتى مجرد الحلم بالسعادة وممارسة الحياة الطبيعية كبشر لهن أحاسيس ومشاعر!! فثلاثتهن لم يستطعن الزواج وفي الوقت نفسه لا يستطعن العمل الشريف لسد رمق جوعهن وجلب ما يؤمن لهن ولوالدتهن حياة كريمة تغنيهن عن الحاجة للآخرين، أيامهن تتشابه وآلامهن واحدة والعمر يمضي ولا أمل يرتجى لأن فقدان الهوية أشعرهن بفقدان الاحساس ببشريتهن وإنسانية المجتمع من حولهن. الهوية الحلم: يؤكد الأبناء أن إثبات الهوية كفيل بحل مشاكلهم جميعًا وأن تسوية وضعهم سوف يزرع لهم الأمل من جديد ويسمح لهم بالتمتع بحقوقهم كأبناء لمواطنة سعودية فلا هم قادرون على تلقي العلاج في المستشفيات ولا مواصلة التعليم أو العمل فأي حياة بعد كل هذا. وقد لا يدرك الكثيرون أن الخوف الأكبر عند الأبناء هو موت والدتهم فتضيع معه ما تبقى من هويتهم وحقيقتهم التي ضاعت بفقدان والدهم وتغيبه عنهم. حياة بائسة: تعيش المواطنة بخيتة وأولادها الخمسة فقرًا كبيرًا في منزل متواضع جدا احتضن جراحهم ومعاناتهم طيلة الفترة الماضية فليس لهم دخل سوى ما تتقاضاه الأم من الضمان الاجتماعي الذي لم يتجاوز 900 ريال شهريا وعلى تبرعات فاعلي الخير لهم والجمعية الخيرية بين فترة وأخرى، فالأم تعيش في غرفة مغلقة من جميع الاتجاهات إلا الباب فقط وليس فيها تكييف، سوى كرسيها المتحرك بجوارها، في منزل مكون من ثلاث غرف ودورة مياه واحدة شيد من البلك “والهنجر” ومطبخ صغير لا يتعدى عرضه المترين فقط، ويؤكد الأبناء أن من تولى سقف المنزل كان فاعل خير. والأكثر إيلاما لهذه الأسرة هو افتقادهم للمال أو للسيارة، حيث لا يستطيعون التنقل من مكان لآخر من أجل محاولة تسوية وضعهم. ------------------ حلم العلاج النفسي ل “محمد”: يؤكد ناصر وشقيقته عيدة أن محمد يعاني من مرض نفسي، ولم يستطيعوا علاجه في مستشفى الصحة النفسية بسبب عدم وجود هوية، ولكن المرة الوحيدة التي تعالج فيها هناك كان عن طريق الدوريات الأمنية عندما قاموا بتسليمه للمستشفى، وتم استقباله ومن ثم مكث للعلاج قرابة شهر، ويضيفا: “لم نستطع بعدها مواصلة علاجه في المستشفى. “المدينة” حاولت تصوير المريض محمد ولم تستطع إلا بعد عناء شديد بسبب هروبه من المنزل فور رؤية الكاميرا وتمكنّا من التقاط صورته وهو يطلق ساقيه هربا، إذ أكد أشقاؤه أنه يعيش على هذا الوضع، ولا يترك مجالًا لأحد لمساعدته أو تغيير ملابسه وتنظيفه.