لا جرم أنَّ شعوبًا بأسرها تسقط من عين الله، وتسقط من عين أهل الجدّ والإنتاج؛ لأنَّها لا عمل لها، فقد استهلكها الفراغ وأسلمها للفناء، وأدبر عنها الجد!! إنَّ العمل والجدّ مطلبٌ شرعيّ وعقليّ، يفرضه الواقع وتدعو إليه الحاجة، من هنا تصاب بخيبة أمل؛ وأنت ترى شبابًا تذهب طاقاتهم فيما لا نفع فيه، ولا طائل من ورائه، ويستكبر أحدهم عن العمل في صنعة هي مصدر رزقٍ له ولمن يعول، حتّى أصاب المجتمع الوهن، وأضحى الاتّكال سمْت الكثير، فتحوّل الاتكالُ إرثًا متوارثًا يتناقله الخلف عن السّلف، فضاعت القوى، وترهّلت العزائم، وغدونا سخرية بين الأمم، من كثرة العاطلين والقاعدين ونؤم الضّحى، وممّا يزيد الطّين بلّة أنَّ بين ظهرانينا نصف عددنا أجانب يعملون ويتعيشون!! والحقيقة المرّة أنَّ كثيرًا من شبابنا استهوتهم حياة البلادة فتكاثرت قواميس البطالة، وجُمل العوز، ومفردات الحاجة والفاقة، فأصبحوا عالةً على غيرهم، وحملًا ثقيلًا على أوطانهم. ثمَّ تمادى البعضُ فعوّل على أفهامٍ ما أنزل الله بها من سلطان؛ كالتّعويل على (القضاء والقدر)، و(الرّضا بالقسّمة، والنّصيب)، فأضحى الرّضا بالقسمة سبّة في التّفكير السليم، ودعوة مبطنة للخمول والتّقاعس!! أمّا لماذا؟! فالإجابة تؤخذ من مفردات المفكر الإسلاميّ محمّد الغزالي إذ يقول: “فلأنَّ الذين تلقوا الأمر وضعوه في غير موضعه، فسوّغوا به الفقر، والكسل، والخمول”. وبذلك الفهم السقيم والتّعويل الباطل أصبحنا بدعًا بين شعوب العالم بكثرة العاطلين والمتقاعسين، وأصبح الشّباب وفيه ما فيه من نشاط وحيويّة و(فتوّة) أداة هدم لا بناء، ومعول تقويض لا تقدم وازدهار؛ فتعطّلت المواهب، وأجهضت العقول، وماتت الأيادي، وطغت لغة الاتكال، فضاعت الهمم وترهلت القوى. وبشيء من الحزن والأسى تحسّس المفكر الأستاذ إبراهيم البليهي هذا الوضع فقال: “الرغبة في العلم والاستمتاع في العمل لا تأتي بالنصائح والمواعظ والإقناع في الكبر؛ وإنّما لا بد أن يتشرَّبها الناشئون امتصاصًا تلقائيًا من البيئة، فتنمو معهم هذه الرّغبة منذ الطفولة”. ولكنَّه لا يقف عند هذا الحد فلقوله تتمّة، حيث يقول: “غير أنّنا هنا ندخل في (إعضال كبير) فالمجتمع (ذاته) ليس من قيمه حبّ العمل، ولا التّلذذ بالعمل وليس هذا الحب وهذا التلذذ ممّا نشأت عليه الأجيال، وفاقد الشيء لا يعطيه، فالمجتمع نفسه بحاجة إلى إعادة تكوين ثقافته ليكون مؤهلًا لتّأهيل أبنائه غير أنّه رغم الإعضال الكبير فليس أمامنا أيُّ حلّ آخر، فلا بد من مواجهة المعضلة بواقعية وإرادة حاسمة". لقد غاب عن الكثيرين ممّن ابتليت بهم الأمم أنَّ في الكيان الإنسانيّ قوى عقليّة وحركة كبيرة لديها القدرة على أن تتفاعل مع العناصر الطبيعيّة، إذ أنَّها قادرة بإذن الله على دفع الشباب إلى العمل والإنتاج. وإذا كنا قد ابتلينا بهؤلاء الفتية فليتذكر أولاءِ الشباب ما كان عليه أنبياء الله وهم ما هم مكانةً وعلو منزلة: فأبونا آدم كان حرّاثا، ونوح وزكريا كانا نجّارين، وإدريس خيّاطًا، وإبراهيم ولوط كانا زرّاعين، وصالح تاجر، وداود حدّاد، وسليمان خوّاص، وموسى وشعيب ومحمد صلوات الله تعالى عليهم رعاة أغنام. ليت الآباء يقولون لأبنائهم بمثل ما قال به علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “كونوا على قبول العمل، أشدّ عناية منكم على العمل”. ويا ليت شبابنا يتفهمون ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إنّي لأرى الرجل فيعجبني، فإذا سألت عنه فقيل: لا حرفة له، سقط من عيني”.