نعرفُ وندركُ أن مرورَ الزمن كفيلٌ بمحو الذاكرة، ولكن هناك مساحة مضيئة تحتفظ بها الذاكرة، وفيها كثير من العطاءات الإنسانية، والذكريات لمَن أكرمهم الله عز وجل، وسخّرهم للغير، فوهبوا وقتهم، وجهدهم لمَن يعرفون، ومَن لا يعرفون حبًّا وصفاءً، فالإنسانية مفهوم جميل يحمل بين طياته أروع الانتماءات، ومن هذه الانتماءات تكريم المولى عز وجل للإنسان، ونحن البشر شهود الله في أرضه، ولكن حقيقة الموت عجيبة، فمن نحبهم، ونتودد إليهم، ونجالسهم نأتي في لحظة ما ونضع التراب عليهم، فكم نحن ضعفاء أمام الموت، وبالأمس رحل عنا، وغادرنا الإنسان الدكتور محمد عبده يماني، صاحب السجل الحافل بالخير والإحسان، ولمّ الشمل، رجل يحب الخير للجميع أكثر من حبّه لنفسه، وهو يعتبر من ذوي الإيثار القلائل في هذا الوقت، إنه من المكيين، وهو إحدى نبتات مكةالمكرمة (أم القرى)، مهبط الوحي. عرفناه بالوفاء، وبالحب لهذا المكان المقدس، خطواته كلها للخير وللعطاء، ومسكونة بحب الجميع، تسكن مكة، وأهلها في قلبه، وروحه، ونسيجه، أمتعنا بكتاباته التاريخية، والاجتماعية، والثقافية، والدينية. نعم يا أبا ياسر فأنت تحمل صدى السنين، وروائع الذكريات، وبهيج الأشجان، وبشهامتك، وكلمتك الحلوة تجسّد فيك سمات الواجب، رحمك الله رحمة الأبرار والصالحين، تحمل عقلاً رزينًا؛ لأنك كنتَ تعرف بفطرتك التي أكرمك الله بها أن الحب والعطاء صفة إنسانية. فقد ودّعت مكةالمكرمة واحدًا من رجالاتها الأوفياء، وروّادها ممّن أفنوا حياتهم لدينهم ثم وطنهم، وأدوا الرسالة بكل ثقة، وإخلاص، وتفانٍ، فقبل خمسة عشر عامًا يأتي ذلك الرجل الذي لا يملك من حطام الدنيا شيئًا، ويُصاب ابنه في لحظة ضعف بمرض القلب، ولا يملك علاجه، فنصل جميعًا إلى رجل الفضل والإحسان محمد عبده يماني، ونخبره بمرض ذلك الشاب، فينهض أمامنا من مكتبه، ويأخذ بأيدينا جميعًا، والأوراق بيننا، ويأخذها بيده، ويذهب بنا إلى الجمعية التي تقدّم خدماتها لمرضى القلب، ويسلّمنا مبلغًا كاملاً لإجراء العملية لذلك المريض الذي لا يعرفه، ولكنّ إسهاماته الخيرية -رحمه الله- وعطاءه، وسمعته تسبقه بأعماله الإنسانية، وأُجريت العملية، وخرج ذلك الشاب معافى، ويخبرنا أنه يريد أن يشكر محمد عبده يماني، وذهبنا إلى مكتب أبي ياسر، وقابلنا بكل بشاشة وقلب نظيف، وأخبرناه.. هذا هو المريض.. وخرج من مكتبه، وقبّل رأس المريض. وفي حديثي مع الأديب الأستاذ الدكتور عاصم حمدان يقول لي: سيرة هذا الرجل مليئة بالأعمال الإنسانية، وقد خسرنا رائدًا من روّاد العمل الخيري، لم يتأخر يومًا قط عن مساعدة الجميع، ويقابل الجميع بكل إنسانية، وهو وجه مضيء على جبين الوطن بأخلاقه، وعطائه، ووفائه. رحمك الله يا أبا ياسر، فأنت مشرقٌ ومتألقٌ، أتيت من أنشودة العمر، كنت تعطي عطاءً يتفق ومحبتك للجميع، فقد كنت إنسانًا قبل كل شيء، ونحن نعرفُ وندركُ أن هناك نماذجَ مشرقةً ومضيئةً دائمًا ما تستوقف الإنسان في محطات حياته، وأنت يا أبا ياسر كنتَ نموذجًا مشرقًا بوفائك لأحبابك، ولأن رسالتك رسالة خير وتفانٍ، وصدق وإخلاص، وضمير يقظ حيّ، وإحساسك دائمًا بعمق الهدف ونبل الغاية، وتسارع خطى الحياة بات يجر شريط الذكريات مدًّا وجزرًا، ويأتيني صوت الأخ المهذّب أبي رائد خالد باكلكا حزينًا في نبرته، متأثرًا بخبر وفاة رجل الخير، يقول لي: إنني أعرف كثيرًا من الخدمات الخيرية التي كان يقدمها محمد عبده يماني، وكان دائمًا يأتيني اتصاله عبر الهاتف لمساعدة مريض، أو مَن يستحق المساعدة، ويكرر أبو رائد أن هذا الرجل يحمل بين جنبات نفسه قلبًا يعشق الخير ويحب الغير. نعم يا أبا ياسر إن القلم ليعجز عن الكتابة عنك، فلم تحمل حقدًا، أو حسدًا، أو بغضاءَ، فتلك الحقبة الماضية أنجبت هذه النماذج التي أنت على رأسها، تمتلئ نفسك صفاءً ونقاءً ومحبةً لمَن حولك، أسكنك الله يا أبا ياسر فسيح الجنان، وجعل ما قمت به، وما عملته من خير بركةً ونورًا في صحائف أعمالك. رسالة: المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية فرع المنطقة الغربية، هي مؤسسة حكومية عامة، لها استقلاليتها الإدارية، والمالية، كمؤسسة لها مركز رئيسي، ولها مكاتب منتشرة بجميع مناطق المملكة، ولدى هذه المؤسسة إستراتيجيتها التي تقوم على تطبيق أنظمة التأمينات الاجتماعية، ومتابعة التنفيذ، وندرك أن هذا النظام يعدُّ من صور التعاون والتكافل الاجتماعي، وبالتأكيد يطبق هذا النظام على العاملين في القطاع الخاص، وعلى مَن يعملون على بند الأجور في القطاع الحكومي حتى يتم توفير حياة كريمة بعد ترك العمل بسبب التقاعد، أو لا سمح الله العجز أو غير ذلك. كل هذه المقدمة من أجل أن أقول: إن مكتب التأمينات الاجتماعية فرع المنطقة الغربية، يُعدُّ نموذجًا رائعًا للإدارة الحديثة والمنظمة التي لا تحتاج إلى واسطة، حتى تنجز ما تريد، ثم إنني أعتقد، بل أجزم بأن موظفي هذا الفرع لديهم من الوعي، ومن صور التعامل الإنساني الراقي الشيء الكثير، وأقترح أن يكون هذا الفرع مركزًا للتدريب لكثير من الإدارات التي تتغاضى عن الرؤية، وتحتاج إلى أن تفيق من نومها العميق، وتحتاج إلى مَن يتابع خطواتها على مدار اليوم. [email protected]