(0 - مدخل) * لا أحد يرضى عن صورته في المرآة! فالإنسان بطبعه يكره الحقيقة العارية مهما كانت درجة صحتها!! إننا لا نقف أمام المرآة لنرى حقيقة وجوهنا، بل لنجري عليها التجميل اللازم.. أو قل إن شئت التزييف اللازم، الذي يرضينا عنها بنفس القدر الذي يبعدنا، ويبعدها عن الحقيقة! (1) * أسوار ثقافة (الله لا يغيّر علينا) التي سادت لقرون، عزلتنا عن كل قوانين الديناميكية والحركة والتطور الإنساني.. كنا نظن -وبعض الظن إثم- أننا قلب العالم النابض، ومحور حركته، أو هكذا كانوا يصوّرون لنا! وعندما انهارت تلك الأسوار -فجأة- بفضل قوانين الحركة الخارجية لا الداخلية.. اكتشفنا أننا لم نكن نمثل للعالم سوى حالة مستعصية من التخشب والسكون! ولأن الرمي بالتخلّف أضحى في نظر العربي أصعب من التخلف ذاته.. فإن (الفوبيا) التي أصابت كثيرًا منا بعد سقوط الأسوار القديمة جعلتنا نلقي بأنفسنا -دون أدنى تعقل أو تمييز- في أحضان الجديد والمختلف، فانجرفنا خلف تيارات الظواهر، دون تقييم عقلاني لمضمونها! إنها عملية الهروب، والتزييف الأكبر في تاريخنا العربي! (2) * حالنا هذه تستدعي إلى الذاكرة تلك القصة الشهيرة عن جماعة العميان الذين تحلّقوا حول فيلٍ ضخم.. وأخذ كل منهم يصف ما وقعت عليه يداه، وكأنها الحقيقة الكاملة التي لا تقبل الجدل.. فمن وقعت يده على خرطوم الفيل راهن على أنه ثعبان ضخم، ومن صادفت يده إحدى قوائم الفيل أقسم أنه وحش عملاق، أمّا من طالت يداه بطن الفيل فقد رماهم جميعًا بالجهل؛ لأنه كان يعتقد أن ذلك الفيل مجرد كرة هائلة من اللحم.. المؤسف أن رؤانا للحضارة لم تخرج عن هذا النسق (العمياني) المتضارب، ليس لعمىً في أبصارنا.. وإنما لقصر النظرة، وعدم شموليتها! (3) * قديمًا قالت العرب إن الفضيلة هي التوسط بين رذيلتين.. فالشجاعة حالة وسطية بين رذيلتي التهور والجبن.. وكذلك الكرم توسطٌ بين البخل والإسراف.. اليوم حيث لا يبدو للتوسط أو التعقل مكان، وحيث تجد نصف المجتمع قد سَلّم زمام أموره إلى سطوة العادات والتقاليد ليسيطر العقل الجمعي المستغرق في المنقول على كل تصرفاته دون إعمال لأبسط أبجديات العقل.. مقابل رمي النصف الآخر لكل تراكماته التاريخية والحضارية لمجرد تخوفه من أن يُجلد بسياط العولمة، أو أن يتهم بالماضوية، فليس من الغريب أن تجد كل هذا التشابه المدهش حتى في الخطأ! (4) * المجتمع الحرّ أيُّها السادة هو المجتمع الذي لا يخشى فيه الفرد أن يكون مختلفًا عن الآخرين.. وأن يقول رأيه بكل تجرد وشفافية.. لقد اكتشف الغرب الذخيرة الهائلة لطاقة العقل، فقفزوا بالحياة البشرية قفزات كمية، ونوعية مدهشة، بعد أن أعملوها في كل مناحي حياتهم.. فقليل من التعقل يرحمكم الله. * الأربعاء المقبل ألقاكم.. [email protected]