يُعدُّ كتاب “فريدة مصر.. أسرار ملكة وسيرة فنانة” للكاتبة الدكتورة لوتس عبدالكريم، والصادر حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية، وثيقة مهمة لما يحويه من معلومات وصور ووثائق وأحداث نادرة لم يذكرها المؤرّخون، ولم ترد في كتب تناولتها الملكية في مصر، ذلك لأن المؤلفة عاشت خمس سنوات مع الملكة فريدة، فاستطاعت أن تكتب سيرتها الذاتية التي لم تدوّنها ملكة مصر. الكتاب يقع في 248 صفحة، ويعتبر كتابًا فنيًّا من حيث الشكل والإخراج والطباعة والصور واللوحات الملونة، وينتمي إلى فئة المذكرات من حيث التأليف، احتوى في غلافه الخلفي مفاجأةً فجّرتها الكاتبة تعد حسب وصف الكاتبة “آخر وأهم أسرار ملكة مصر وهي عودة الملكة فريدة إلى الملك فاروق بعقد زواجٍ رسميٍّ قبل وفاته ببضع سنوات”؛ حيث تقول لوتس:“هذا الخبر لا يعتبرُ سرًّا.. إنما لم تشأ الملكة فريدة إعلانه منذ حدوثه وأثناء إقامتها بمصر؛ خشية أن يعرقل ذلك وجودها في البلد الذي عشقته طوال حياتها، أي مصر.. لكنهما كانا يلتقيان، وهذا يدل على أنَّ الحبَّ القديمَ بينهما لم تُطفئ جذوته الأيام، وأنها ظلّت هي الأثيرة لديه وهو الأثير لديها.. وهذا يفسِّر لماذا كانت ترفض الارتباط بأي شخص كما كان يفسر بكاءها الشديد حينما كنا نزور معًا مقبرته.. هذا الخبر لم يعرف به سواي، وابنتها الكبرى فريال، ولما رأيت أنه لم يعد سرًّا، وإنما أصبح خبرًا مهمًّا يجب أن يعلم الكل به.. أردت كتابته؛ لأنه يستحق أن ينشر.. خطاب إلى حرم الرئيس ويضم الكتاب العديد من الوثائق مثل إشهار طلاق الملكة فريدة من الملك فاروق، وخطاب موجَّه من الملكة فريدة إلى السيدة سوزان مبارك قرينة الرئيس المصري محمد حسني مبارك، وقدِّر لهذا الخطاب ألاّ يصل إلى وجهته التي أرادتها الملكة. وصور لجوازي سفر الملكة فريدة وأمها السيدة زينب ذو الفقار. كما يضمُّ 150صورةً ووثيقةً نادرةً للملكة فريدة والملك فاروق، وعائلتها وبناتها وأحفادها والمحيطين بها من المعارف وأصدقاء الفن والحياة والملكية والسياسة. وتصف لوتس الملكة فريدة بقولها: كانت دائمًا متحفظة متوجسة أن تمس أناسًا مازالوا على قيد الحياة.. وأناسًا فارقوا الحياة. لهم مكانتهم ودورهم فى حياتها.. وكانت شحيحة بالبوح، معتزة بماضيها أيًّا كان ما لحقها منه. وكانت تقول: إذا تكلّمت فسوف أجرح الكثيرين. انضباط حد الوسوسة وتمضي لوتس راسمة صورة الملكة مضيفة: كانت تزعجها الأصوات العالية، والكلمات النابية، والموسيقى الرخيصة، والأغنيات القبيحة، والألوان الصاخبة.. تحب النظام والدقة والانضباط إلى حد الوسوسة، تحب الموسيقى الكلاسيك، والألوان الهادئة، والأدب، والاحتشام. ذات حس مرهف، وذوق رفيع، وثقافة وذكاء حاد، وشفافية وحدس لا يخيب.. بل لديها موهبة الكشف، تدرك بسهولة ما بنفس أو قلب من أمامها، سواء خير أم شر، وكانت دائمًا ما تحذّرني من بعض الأشخاص دون أن تعرفهم، بل بمجرد الرؤية، وكانت تحدس من الطيب ومن الخبيث ممّن يقابلونني، تحب الأصالة والبساطة، وكل ما هو أصيل وبسيط.. تمقت الكذب والنفاق، والخوض فى السير، قليلة الثقة بالناس. رحلتها مع اللوكيميا وتكشف لوتس يوم وصول “فريدة” إلى مصر من رحلة العذاب في سويسرا كانت تتكلم وتشكو وتخبرني بكل ما حدث في رحلتها. هذه الرحلة التي لم تكن في الحسبان، والتي منعها منها سائر الأطباء على رأسهم الراحل الدكتور ياسين عبدالغفار، وقد صارحها بخطورة حالتها.. ولكنها أيضًا كعادتها -لا تستمع للنصائح، وتصر على ما تريده- أصرَّت: “أريد أن أرى بناتي وأحفادي”.. كانت قد تحسّنت تحسنًا ملحوظًا بعد مجهود وصبر، ورعاية من الدكتور ياسين عبد الغفار، وكل من عالجها هناك.. وظنّت أنها شُفيت لمجرد وقوفها على قدميها، فصاحت مُصِرَّةً على مغادرة المستشفى إلى منزلها.. وهناك أنهت كل إجراءات السفر، وكانت تبدو نشيطة، وكأن المرض غادرها إلى غير رجعة. وسافرت.. وأتّصلتُ بها وشكت لى سوء معاملة الممرضات السويسريات لها، وغلظة الأطباء، وندمت -كما توقعت- على تركها المستشفى بمصر.. ظللتُ على الاتّصال بها طوال الصيف، وظلت على شكواها المُرّة، وعذابها المتزايد، وحين وصلت إلى مصر -وكنت بالكويت- طلبت مني السفر إليها، ولكنِّي لم أستطع ذلك للأسباب نفسها التي منعتني من مرافقتها. وعلمتُ أنهم يستعملون في علاجها أحدث أنواع الحقن الخاصة بعلاج اللوكيميا؛ بينما كانت معاناتها في تعطيل وظائف الكبد بالتدريج، والضعف الشديد الذى ازداد من استعمال هذه الحقن حتى وهنت قواها، وتوقفت مقاومتها تمامًا.. حتى أن أول تحليل قمتُ به لها بعد وصولها مباشرة قالت لي الدكتورة نازلي جاد المولى حين قرأته: (كويس خالص.. دي شُفيت تمامًا من اللوكيميا).. ولكنها ماتت.. لقد قضى العلاج على اللوكيميا، وقضى عليها أيضًا. يوم وصولها إلى مصر انتظرتها سيارة الإسعاف قرب الطائرة، فلم تكن تستطيع السير، وكانت كلماتها متقطعة، والاصفرار والإرهاق يبدوان بجلاء على وجهها، حتى أنني دُهشت كيف سافرت وهي على هذه الحال. حدّثتني المذيعة السيدة آمال فهمي، والتى كانت تجاور مقعدها بالطائرة بأنها حاولت الحديث معها أثناء الرحلة، ولكنها كانت تهذى بأشياء لا معنى لها.. وفهمتُ أنها بداية الغيبوبة الكبدية، والتي قال عنها الدكتور ياسين: إنها بداية النهاية.. وفهمت أنها جاءت لتُدفن في مصر.. وتواصل لوتس سرد اللحظات الأخيرة من حياة الملكة فريدة قائلة: بعد يومين من وصولها لمصر تدهورت حالتها تمامًا، ونُقلت إلى مستشفى (النيل بدراوي)، وكان آخر حديث لها معي هاتفيًّا من المستشفى عن مفتاح شقتها، وأشياء أخرى.. مع قطرات المحلول البطيئة كانت تتسرب منها قطرات الحياة. الأطباء يروحون ويغدون أمام غرفة الإنعاش والتي بها رقدت.. لم يعد مسموحًا لأحد بالزيارة، وأثار ذلك سوء تفاهم شديد.. فقد حضر أقارب لم نرهم أبدًا، وأصدقاء لا نعرفهم، والكل يريد مشاهدتها، التفرّج عليها. أمن أجل مشاهدة ملكة فى النزع الأخير، أم هو التاج على فراش المرض.. أم شفقة مؤجلة.. أم حقد وتشفٍّ؟ كل ذلك مرَّ بخاطرى وأنا أقرأ وجوه زوّارها كلهم، وإلاّ فأين كان كل هؤلاء أثناء حياتها؟ ساعة، أو سويعات ويكف الألم، وينقضى العذاب.. يدخل “عليّ” ابن شقيقتها سعيد، ويجلس إلى جوار الفراش يقرأ القرآن.. وتنفرج جفونها للمرة الأولى والأخيرة.. ثم تمد يدها لتمسك بيده، ووجهها يتألق وهي تردد “لا إله إلاّ الله”. السحر أقوى ومن الفصول الشائقة في كتاب “فريدة مصر” ما سجلته مؤلفته الدكتورة لوتس عن اهتمام الملكة فريدة بالسحر، حيث تقول المؤلفة: “كانت تؤمن بأن هناك قوى خفية تحيطها بالشؤم، وتسلبها السعادة”. كانت دائمًا تردد: (نازلي كانت تكرهني، واستعملت السحر كي تعذبني في كل مراحل حياتي، فحرمتني أعز ما لدي.. زوجي ثم أولادي، ثم راحتي واستقراري، وأخيرًا صحتي.. هكذا تطاردني اللعنة الخفية أينما حللت). هكذا كانت عقيدتها الراسخة.. السحر وكيفية التغلّب بأية وسيلة على شر هذا السحر، في القرآن الكريم، في كتب الدّين، وكانت تسجل أحاسيسها واعتقاداتها فى كثير من لوحاتها، خصوصًا فى المرحلة الأخيرة.. وجوه مخيفة: دماء، وأصابع، وأظافر، وخطوط رهيبة داكنة، وعيون مذعورة. ذات صباح بادرتني هاتفيًّا في ذعر حقيقي: (الحقينى.. ماذا حدث؟ تعالي.. وجدتها تمد لي يديها بخاتم ذهبي كان ملازمًا لأصبعها عليه التاج الملكي وقد انكسر من باطن اليد، ونقصت منه قطعة بمقدار ملليمتر). قالت لى: فسِّري ذلك.. صحوت من النوم وجدته فى أصبعي بهذا المنظر! والأدهى أن هناك قطعة ناقصة منه، يعني كسر غير عادي، بفعل غير عادي، وطلبت منى الاتصال بالدكتور مصطفى محمود، فقد يفسر هذه الأمور الخفية. ثم الذهاب إلى أحد الصاغة، وسؤاله عن خواص الذهب، وكيف يمكن أن يحدث هذا.. وضحك الدكتور مصطفى محمود وأجابها متفكّهًا: مفيش عفاريت أثناء نومك يمكن أن تفعل هذا بالخاتم، لكن إذا كان ده خاتم الملك، والمُلك لله وحده، فأحسن شيء هو التبرُّع به للمسجد، أي لله). ولم يعجبها كلامه، ولم تفرّط في الخاتم. وقال الصائغ: ربما استعملت مادة أثناء الرسم أثرت على الذهب فانكسر، ولكنها تصر: (والقطعة المفقودة؟) ولم تقتنع، وخلعت الخاتم، واحتفظت به فى علبة خاصة. فى ذلك المساء طفقنا نحكي عن الأرواح، وحكايات عن السحر.. ولم تنم، فى الصباح قالت لي: عندي مفاجأة، ورفعت غطاءً أبيض في غرفة نومها من فوق حاجز أمام الشباك، فإذا بلوحة صاخبة الألوان، مطموسة المعالم تطل بها وجوه مخيفة من قلب العتمة.. قالت لي إنها أمضت الليل تفرغ فيها شحنة رعبها، وحاولت أن تجسِّم بها تلك (القوى المجهولة)، وأطلقنا عليها ذلك الاسم.. هذه هي الملكة البسيطة في عقائدها، المثقفة، المتناقضة مع نفسها في شتّى المجالات.