* يستغرب كثيرون هنا في مجتمعنا المظاهرات والغضب الذي اجتاح فرنسا مؤخراً بسبب عزم الحكومة الفرنسية الحالية رفع سن التقاعد إلى اثنين وستين عاماً بدلاً من ستين. وسبب الاستغراب السعودي ليس في المظاهرات في حد ذاتها فهذه سمة من سمات المجتمعات الديمقراطية وتحدث بصور متكررة وتنقلها كل وسائل الإعلام، ولكن الاستغراب هو في الاحتجاج الجماهيري على رفع سن التقاعد. * في ظاهر الأمر بالنسبة لنا كسعوديين وكعرب، أن رفع سن التقاعد في صالح الموظف بل أن كثيرين يطالبون بتمديد خدماتهم ومنهم أساتذة الجامعات وقد كتبت وطالبت أنا شخصياً وزارة التعليم العالي النظر في رفع سن تقاعد الأستاذ الجامعي لعدم تناسب السن الحالية مع حالته الجسمانية والعقلية وطبيعة العمل الأكاديمي. * ولكن في داخل الصورة أو ما بين سطور ما نراه من مظاهرات تكمن حقائق حياتية تغيب عنا هنا في مجتمعنا المحلي وهي أن الفرنسيين ومعهم الغربيون وأبناء الدول الصناعية الأخرى مثل اليابان وكوريا الجنوبية يرون في رفع سن التقاعد إجحافاً بحقوقهم وانتهاكاً قانونياً غير مبرر واستغلالاً غير مقبول. * العامل في تلك البيئات يسعى طوال حياته إلى تأمين تقاعد مريح له والتمتع بكل مزايا التقاعد التي تتيحها الأنظمة والقوانين هناك ومنها الضمانات الاجتماعية، ولهذا يكد ويجتهد ويخلص ويؤدي العمل بكل أمانة ونزاهة. وينتظر بفارغ الصبر سن التقاعد ليتمتع بكل المباهج الحياتية التي لم يتمكن منها أثناء عمله لانشغاله ومنها اكتشاف العالم. * ومرحلة التقاعد في تلك البيئات ليست موتاً قاعدياً كما يطلق عليه في بيئتنا بل فرصة لتجديد الدماء وفرصة للمتقاعدين في استثمار أوقاتهم بما لم يتمكنوا من عمله أثناء تأديتهم واجباتهم وكنت أشاهد وأثناء دراستي للماجستير والدكتوراة في أمريكا متقاعدين في سن متقدمة جداً يجالسوننا في قاعات المحاضرات لأنهم في شغف لمعرفة ما لم يحصلوا عليه وهم في سن العمل المبكرة. * أما لدينا فالتقاعد هو نهاية كل شيء في حياة الموظف والعامل وخسارة لكثير من المزايا فالرواتب تصل إلى مستويات متدنية جداً مع عدم وجود ضمانات أخرى مثل التأمين الصحي غير الموجود أصلاً حتى أثناء أداء الخدمة ناهيك بعدها، كما لا توجد أي قوانين أو أنظمة تعطي المتقاعدين مزايا من مثل تخفيضات تذاكر السفر والنقل والخدمات الحياتية الضرورية الأخرى، وهو ما يشكل عبئاً ثقيلاً جداً على المتقاعدين. * ولهذا بدلاً من أن ينتظر من قاربت سنه على التقاعد لدينا بداية مرحلة التقاعد مثله مثل نظيره في البيئات الصناعية يسعى بكل جهده وعلاقاته إلى تمديد خدمته حتى لا يفقد أياً من المزايا ويصبح في مهب الريح، وهذا يستدعي من كل الجهات الحكومية والأهلية وضع الأنظمة التي توفر كافة الضمانات الاجتماعية للمتقاعدين حتى يعيش المتقاعدون في هدوء وطمأنينة ويستفيد الوطن من الدماء الشابة في تجديد الحركة داخل مفاصل العمل بكل أشكاله. فاكس: 6718388 – جدة [email protected]