تشيلي دولة نائية تحتل شريطًا ساحليًا ضيقًا وطويلًا على الساحل الغربي في أمريكا اللاتينية، وتكاد لا تطرق أسماعنا على الإطلاق، سمعنا عنها قبل حوالى أربعة عقود عندما انتخبت سلفادور اليندي رئيسًا لها وكان بذلك أول ماركسي يصل إلى الحكم عن طريق الانتخاب، ثم سمعنا بالانقلاب الدموي الذي أطاح به على يد الجنرال أوجوستو بينوشيه الذي سيطر على الدولة بيد من حديد وسعى إلى تصفية أنصار اليندي عن طريق القتل والإعدام والاختطاف والترهيب ولكنه في الوقت ذاته منح تشيلي سنوات من الهدوء والاستقرار والانتعاش الاقتصادي إلى أن تمكنت البلاد من العودة إلى الديمقراطية، ثم سمعنا عن تشيلي وهي تطارد بينوشيه الذي اختار أن يعيش سنوات تقاعده وشيخوخته في أوروبا ثم عاد إلى بلاده ليواجه سلسلة من الملاحقات القضائية انتهت بوفاته ليسدل بذلك الستار على حقبة مثيرة للجدل في تلك البلاد، وبعد ذلك عادت تشيلي إلى الهدوء واندفعت نحو تحقيق نسب مرتفعة من النمو الاقتصادي تنبئ لها بمستقبل واعد مع جاراتها اللاتينيات اللائي أصبحن يمثلن ثقلًا سياسيًا واقتصاديًا عالميًا ملموسًا. وفي الأسابيع الماضية عادت تشيلي لتحتل مساحة واسعة من الأخبار ولتشد أنظار العالم إليها عبر محنة عمال المناجم الذين احتجزوا في باطن الأرض قرابة عشرة أسابيع كان من بينها سبعة عشر يومًا لم يكن أحد يعرف أثناءها ما إذا كان هؤلاء العمال قد قضوا نحبهم أم أنهم ما زالوا على قيد الحياة.. وعبر تلك الأيام والأسابيع راحت تشيلي تعطي العالم دروسًا ثمينة، ففي البداية كان العزم والتصميم على العثور على العمال ومعرفة مصيرهم، وبعد أن عرفت الدولة أنهم أحياء استنفرت كل جهودها وطاقاتها نحو استعادتهم وسخرت كفاءات أبنائها لتصميم عربة الإنقاذ المبتكرة التي نقلتهم إلى الحياة واحدًا تلو الآخر. ومع أن تشيلي قد استعانت بخبرات دولية إلا أن عملية الإنقاذ بكاملها بدءًا من حفر الأنفاق التي وصل المنقذون من خلالها إلى العمال ومرورًا بتصميم العربة وانتهاء باستخراج العمال ثم الاطمئنان على حالتهم الصحية والنفسية كانت عملية وطنية أشرف عليها رئيس الدولة شخصيًا وأسند مهمة إدارتها إلى وزير التعدين وشارك فيها الجيش وشركات التعدين الوطنية والآلاف من المتطوعين والأنصار. لقد قالت لنا تشيلي بصوت رنان إن المواطن ذو قيمة وإن الغالي يهون في سبيل إنقاذ ثلاثة وثلاثين من العمال البسطاء، وعلمتنا تشيلي أن المستحيل ينهار أمام الإرادة والعزيمة المقرونة بالعلم والتخطيط المنهجي، وبينت لنا تشيلي بجلاء أن وضوح الهدف ووحدة القيادة وتسخير الإمكانيات هي السبيل إلى النجاح، كما أن العمال المحتجزين أنفسهم قد أعطوا العالم دروسًا في الصبر والإيثار والتنظيم الذاتي كان من أهمها أنهم استطاعوا أن يستفيدوا مما كان لديهم من مؤونة مخصصة لاستهلاك ثمان وأربعين ساعة بحيث استنفدوها عبر سبعة عشر يومًا قبل أن تصلهم الإمدادات الإضافية من فريق البحث والإنقاذ. عندما سئل رئيس تشيلي عن مكانة بلاده الدولية عقب نجاح عملية الإنقاذ، قال إن مكانة بلاده سوف تسمو حقًا عندما تصبح أول دولة لاتينية تقضي تمامًا على الفقر بين صفوف أبنائها خلال السنوات العشر المقبلة كما هو مخطط لها أن تفعل.. هدف جديد وعملية إنقاذ أخرى تعلنها تشيلي للعالم.. شكرًا تشيلي!! فلقد تعلمنا منك الكثير!!