إنَّ العقل الواعي بمتغيّرات المرّحلة يُدرك أيّما إدراكٍ كم أَحْدثت فينا هذه المتغيّرات من خللٍ ليس على المستوى السلوكيّ فقط؛ بل إلى ما هو أخطر وأبعد من ذلك كلّه حتّى طالت لغة التّخاطب وطرائق التّفكير؛ ما أحدث شرخًا عميقًا بين ما نؤمن به في موازين الدّين، وما نعتقده في موازين العقل؛ وكلاهما يقومان على لغة نَقْرأ بها كتاب الله، ونفسّر بها حديث نبيه صلّى الله عليه وسلّم. يقول الأمير خالد الفيصل: “إنّه من العيب علينا أن تكون هناك مسمّيات أعجميّة في مكةالمكرمة مهبط الوحي، وفي المكان الذي أنزلت فيه أول آية (اقرأ)، وشهد ولادة آخر رسل البشريّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، كيف نقبل لأماكننا ومؤسساتنا ومبانينا وشوارعنا أن تتوهّج بكلمات وبحروف وبأسماء أعجمية؟!”. بعد أنْ قرأتُ ما قال به الأمير خالد الفيصل بوجوب تغيير كل المسمّيّات الأجنبيّة التي تحملها واجهات المحال التّجاريّة عزمت العقد على تتبّع ما يصادفني وأنا في طريق العودة إلى مقر سكني؛ خروجًا من شارع فلسطين -مقر الصحيفة الرئيس- حتّى حيّ النّعيم حيث أسكن، فأحضرت الورقة، وأمسكت بالقلم وإذا بي أجمع ما يفوق عدد أصابع عشرة رجال مضروبة في ثلاثة؛ ناهيك عن بعض الأسماء التي غابت عن النّظر وأُغفلت من الذّاكرة. إنّ المطالبة بتغيير كلّ تلك الأسماء الأجنبيّة من واجهات المحال التّجارية -كما أمر الأمير خالد الفيصل- قائمة على مبدأ الإيمان بأنّ الأسماء ليست كلمات تلوكها الألسنة؛ وإنّما هي مجموعة دلالات ثقافيّة تعبّر عن جوهر المدلول، وقوته وأصالته وانتمائه. ونحنُ بحمد الله في هذا الوطن الكبير لسنا دولة صُبغت بلغة الاستعمار كي تتعالى فيها لغته؛ كما هو حال الكثير من الأوطان حتّى غدت بعضها مطموسة الهويّة ضائعة اللغة؛ فلا إلى هؤلاءِ، ولا إلى هؤلاءِ! ورحم الله صاحبي عباس محمود العقاد عندما قال في كتابه الشهير (اللغة الشاعرة): “ومن واجب القارئ العربيّ -إلى جانب غيرته على لغته- أنْ يذكر أنّه لا يُطالب بحماية لسانه ولا مزيد على ذلك؛ ولكنّه مطالبٌ بحماية العالم من خسارة فادحة تصيبه بما يصيب هذه الأداة العالميّة من أدوات المنطق الإنسانيّ، بعد أن بلغت مبلغها الرّفيع من التّطور والكمال، وإنّ بيت القصيد هنا أعظم من القصيد كلّه؛ لأنّ السّهم في هذه الرميّة يسدد إلى القلب ولا يقف عند الفم واللسان”. واللغة الشاعرة التي يعنيها العقاد هي التي بنيت على نسق الشّعر في أصوله الفنيّة والموسيقيّة؛ وهي في جملتها فنٌ منظومٌ منسقُ الأوزانِ والأصوات، لا تنفصل عن الشّعر في كلام تألفت منه؛ ولو لم يكن من كلام الشّعراء. وهذه الخاصة في اللغة العربيّة ظاهرة من تركيب حروفها على حدة، إلى تركيب مفرداتها على حدة، إلى تركيب قواعدها وعباراتها، إلى تركيب أعاريضها وتفعيلاتها في بنية القصيد. يقول أحد المستشرقين: “إنّه لا بد أنْ يزداد تعجّب المرء من وفرة مفردات اللّغة العربيّة، عندما يعرف أنّ علاقات المعيشة لدى العرب بسيطة جدًا؛ ولكنّهم في داخل هذه الدائرة يرمزون للفرق الدّقيق في المعنى بكلمة خاصّة...”. حسنا ماذا بقى من القول؟ بقى أنْ أقول: إنّ الدُّول المتحضّرة تحرص على لغتها تخاطبًا وكتابة؛ حتّى وصل الحال ببعضها أن جرّمت من يتحدث بأيّ لغة غير لغتها الأم؛ ويظهر ذلك جليًّا في موقف فرنسا عندما أقدمت على تجريم كلّ من يتحدث باللّغة الإنجليزيّة -تحديدًا- في الإدارات والمؤسسات الرسميّة؛ بل وصل الحال أنْ قامت بحملة طالت تغيير جميع اللافتات المكتوبة بغير اللّغة الفرنسيّة.