كنت طالبة حينها عندما وقفت أمام اللواء يوسف محمد فاضل مدير عام الجوازات بجدة لإنهاء معاملة موظف في منشأتي آنذاك، وقد كان فاضلاً اسماً على مسمى. كان «المعقب» يلقنني ما سأقوله. والمعقب، لمن لا يعرف من يكون من القراء الأعزاء، هو الذي يعقب على معاملاتك لدى الجهات الحكومية والخاصة ويتحكم فيك ويحاول التحكم فيها. كما أنه ليس للمكفول والكفيل، على السواء، من وسيلة للتواصل في حال اختفى هذا المعقب عن الأنظار إلا إذا قرر صاحب العلاقة اللجوء إلى داره وانتظاره. هناك، في مكتب العم يوسف فاضل، التقيت بالتاجر والأكاديمي، بالمراجع والمقيم، والتقيت أيضاً بهذا الذي جاء سيراً على الأقدام وبذاك الذي حضر بسيارته الفارهة حتى استوعبت حينها أن ساعة «الرولكس» وقلم «الباركر» والخاتم الفضة وفي بعض الأحيان «البشت» علامات مشتركة للأثرياء من المراجعين. كنت طالبة ترتدي مريول المدرسة الأخضر وكان لساني يتلعثم رعباً من العسكري المدفون في نفسي، ففي مدينتنا المكاوية اعتادوا سرقة فرحة طفولتنا بتخويفنا بالعسكري. رغم كل البساطة التي كانت تطبع ذلك الزمن الماضي وخاصة مبنى الجوازات فقد كان الموظف يتعامل مع النساء، كما أذكره حتى اليوم، يهز رأسه بالنفي أو القبول في البداية. ثم بعد ذلك إن لم تفهم فإنه يشرح لك عظائم الأمور وفي النهاية يأتيك صوته العسكري الآمر.. يا أمي لا تعطلين العمل .. وقد ينفجر غاضباً.. خلاص.. النظام لا يسمح فتبحث في مصنفك عن ورقة منسية تقنعه بها بقانونية طلبك لتنتهي معاناتك. وبعد.. غادرت الفصول الدراسية وانضممت إلى المجالس الإدارية وغاب اللواء يوسف فاضل وجاء آخر. تطور نظام الجوازات فأصبحنا نراجع المعاملات والجوازات من مكاتبنا بينما انقلب «المعقب» إلى نظام «مقيم» الالكتروني فغدونا بقدرة قادر لا نلتقي بمدير جوازات جدة ونائبه إلا في النوائب، وللشهادة أقول إن موظفي جوازات جدة ينجزون أعمالهم دون أن يقوموا بتخويف البشر بالزي العسكري. أنشأت الجوازات إدارة نسائية تعمل فيها النساء «نادلات» للملف الأخضر، دون أي حاسوب أو قرار مكتوب. تستلم الموظفة المعاملة لتقوم بإرسالها إلى قسم الموظفين الرجال. ومن خبرتي وتعاملي معهن أقول إنهن موظفات متعلمات لديهن الثقة بالنفس. إنهن قادرات على إنجاز ما هو أهم من مجرد معاملة ورغم ذلك فإن الانجاز الحقيقي ذكوري بينما الاستلام والتسليم يبقيان نسائيين وكأن تاريخ عمل حواء في بلادي حاضر في كل زاوية مرغماً المرأة على تحجيم قدراتها. لكن التاريخ يخبرنا أنه لولا مخالفة المألوف لما تغيرت تصاريف الليل والنهار. إنني لا أزال أتذكر اللواء يوسف فاضل بكل ود وتقدير، هذا الإنسان المسؤول الذي كان يسهل إجراءات البشر، وقد نالني خيره، وأنا مازلت طالبة علم.