عندما أصبح الصباح وخرجنا من البيت؛ تعكر صفو صباحنا بريح الصّبا التي تلفح حرارتها الوجوه، فقال لي أبي: يا منصور هل تعرف ماذا تقول الصبا؟ فقلت: لا وربي. فقال: تقول الصّبا: “لو أهب أربعين صباحًا لخلي في كل مُراح نياح، وقالت الأزيب لو أهب أربعين صباحًا لخلي الماء سفاح”. فأعجبني هذا المثل، وطربت لمسمعه. ولا أدري أيها السادة هل أشرح معنى المثل أو أستطرد في ذكر أقوال الدنيا (أي أقوال ما في الدنيا) التي رويتها عن أبي؟ فالصَّبا ريح تأتي غالبًا في الصباح وتكون حارةً جدًّا في القيظ، وعلى رأي الأجداد أنها تأتي في القيظ لتليّن التمر. والأزيب ريح خفيفة تسبق المطر وتنقل لنا رائحته. أما كلام الدنيا الذي أسمعه دائمًا من أبي ويرويه عن الأجداد فهو بعضٌ من موروثنا الشعبي الذي مزجت فيه الحكمة مع التجربة حيث يستنطق الأشياء ويبين حقائقها، وبعضه يبنى على المضادات، وكلام الصّبا والأزيب كأنه تخاصمٌ بين متضادين وكلٌ يفخر بفعله؛ فالصّبا تفخر ببأسها وكأنها تندب حظها لأنها لن تدوم طويلًا، وهذا ما أثبتته تجربة الأجداد، فترد عليها الأزيب وتفخر بأنها ريحُ المطر وأنها لو استمرت لجعلت الماء يسفح على الأرض. وفي الكلام تحذير من التعرض للصبا واستبشار بالأزيب وترغيب فيها. ومن ذلك (تقول الضأن لولا كره الراعي لشبعت من تحت كراعي، وتقول المعزى لولا حب الراعي لجمحت البحر بكراعي)، (وتقول الإبل راعيّة ما أحد يطارحه، وتقول الغنم راعيّة ما أحد يرامية)، (ويقول النمر قوتي قوة عشرة وبُصري بُصر واحد، ويقول الذئب بُصري بُصر عشرة وقوتي قوة واحد). ولهذه الأمثال جذور في أدبنا العربي القديم كالحكم التي جاءت على لسان الضب عندما حكم بين الأرنب والثعلب. ولقيت هذه الأمثال شيوعًا لخفتها وعمق ما فيها من حكمة وإصابتها للغرض، وصدق تمثيلها للحياة العامة ولأخلاق الشعوب. وبعضها يطول حتى يصل إلى قصص فيها من الطرافة والفكاهة، ولكن هذه القصص المرويّة على ألسن الحيوانات تصل إلى مسلّمات محسوسة كقصة الديك والغراب. وهو ما ورد من أحاديث العرب أن الديك كان نديمًا للغراب، وأنهما شربا الخمر عند خمار ولم يعطياه شيئًا، وذهب الغراب ليأتيه بالثمن حين شرب، ورهن الديك فخاس به فبقي محبوسًا. وربما لهذا الغدر تشاءمت العرب من الغراب ورأته نذيرًا بالفرقة والخراب ربما لأنه تسبب في فقدان الديك حريته واستئثاره لدى البشر حتى اليوم. أو مسموعة تنتهي بنغم صوتي يشبه إلى حد كبير بطل القصة وكأنه تفسير لصوت ذلك الحيوان أو الطير كقصة البومة في أدبنا الشعبي؛ وهي: أن البومة كانت امرأة ولديها الكثير من الماشية، وهذه الماشية إذا رأت النار فإنها تتحول إلى حشرات وزواحف لا يستفاد منها. وفي ليلة من ليالي الشتاء الباردة تضيّف جماعة عند هذه المرأة “طائر البومة”، فأكرمتهم أيما إكرام، فقالوا لها إننا نشعر ببرد شديد فنريد منك أن تشعلي لنا نارًا نتدفأُ بها، فأبت وقالت: أنتم تعلمون أن ماشيتي إذا رأت النار تتحول إلى حشرات، فلا تشقوا عليَّ. فقالوا: لا تخافي فإننا سنكتنف النار حتى تنطفئ، ونعدك بألا يُرى من ضوئها شيء، فرضيت بذلك على شرطهم، فلما تدفّؤوا دبّت في رؤوسهم نذالة البشر فقاموا قومة رجل واحد، ورأت الماشية النار فتحولت إلى عقارب وإلى حيات وسلاحف... فبكت البومة بكاءّ شديدًَا وندبت حظها وكانت تقول: “تووووبة ما قط قط، تووووبة ما قط قط” أي: توبة ما أشعل النار قط ما أشعل النار قط. حتى تحولت إلى بومة، ولما تحولت إلى طير بقيت تقول نفس هذا الكلام ليس بلفظه الفصيح كبني البشر ولكن بصوت له نفس الموسيقى. ولعل ما يلفت النظر في هذا الفن الأدبي هو المغزى الرمزي الذي تنطوي عليه القصص وتشف عنه أحداثها إذ إن ظاهرها لهو وباطنها حكمة. ولا أدري هل سيأتي يوم تنقل فيه أقوال على لسان السيارة والطائرة والكمبيوتر والمكيفات ....؟! ----------- (*) جامعة أم القرى / كلية اللغة العربية - قسم البلاغة والنقد