تشعر غالبية الفتيات بالفرح عندما يأتي خاطب يريد أن ينقلها إلى مملكة تؤسسها هي، ومن تحب وتكوّن أسرة خاصة بها، لكن هذا الفرح يشوبه الألم واليأس حينما يصطدم بواقع وعرف اجتماعي لدى الكثير من العائلات والأسر، من خلال التأكيد على أهمية الكفاءة بين الزوجين سواء في النسب والقبيلة والجمال والمنصب الاجتماعي أو المالي إلى غيرها من شروط الكفاءة التي تتطلبها الموافقة على أي خاطب، “الرسالة” فتحت ملف العنوسة وكفاءة النسب وحاورت المختصين فإلى ثنايا الموضوع: التجانس وتمام الألفة يوضح المتخصص التربوي في شؤون الأسرة الدكتور عدنان حسن باحارث الجذور النفسية للكفاءة بين الزوجين فيقول: “تراعي الشريعة الإسلامية في بنائها الاجتماعي طبائع النفوس البشرية في ميولها ورغباتها، ومحبوباتها ومكروهاتها، ضمن ما يحقق المصلحة الشرعية، ويدفع المفسدة المتوقعة؛ فإن الذي أنزل الشريعة -سبحانه وتعالى- هو الذي خلق الإنسان، ويعلم طبيعته وميوله، ولقد جرت طبائع غالب الناس في اختيار الأصدقاء والجلساء والزملاء على الأكفاء، فالرجل يحب أن يصادق من يكافئه في المكانة الاجتماعية، ومن يشابهه في الطباع والأفكار، ويقاربه أيضًا في السن؛ لما يكون في هذا التجانس من تمام الألفة، ودوام المحبة بين الأصدقاء، وهذا أمر يكاد يكون عامًا في أوساط الناس، ومخالفته تحتاج إلى شيء من الصبر، ومدافعة هوى النفس؛ فقلَّما يتصادق غنيٌ وفقير، وأمير وحقير، وشريف ووضيع؛ إذ يحتاج كلٌ منهما إلى جهد نفسي يتكلَّفه لصاحبه، ويدافع هوى نفسه، لا سيما من جهة صاحب المكانة والغنى والشرف، فالأمر عليه أصعب، وتتجلى قضية الكفاءة بين الناس كأشد ما يكون في مسائل النكاح، حين ترفض الأسرة الشريفة الوضيع من الخطَّاب، وتأنف المرأة أن تكون فراشًا لرجل دونها في الشرف والمكانة؛ فالأسرة تتضرر بالرجل الوضيع حين يكون سببًا في تنفير الشرفاء من هذه الأسرة، وحصول الشقاق بين الأقارب، والمرأة تتضرر به حين تراه دونها، فلا تنبسط له انبساط الزوجة المحبة، ولا تقوم على بيته قيام الزوجة المجدة، إضافة إلى ما في الزواج من طول الصحبة، ودوام العشرة، والشريعة الإسلامية حين تقرر مبدأ الكفاءة بين الزوجين إنما تقصد إلى دوام العشرة، وحصول الانسجام والألفة بين الزوجين، مراعية في ذلك طباع النفوس، وما جُبلت عليه، وليس مقصد الشريعة تعقيد شؤون الزواج فقد جرت أحكامها في أمور النكاح على التيسير والتسهيل، والتوسُّع فيه، ورفع الحرج؛ فالمهر الذي يُعدُّ من ضروريات النكاح جاءت الشريعة فيه بالتخفيف، إلى درجة قد تصل إلى حدِّ الرمزية فقط، فقد أقرت من المهور: خاتم الحديد، والنعل، والتعليم، كما أقرت تأجيله بأكمله؛ إذ مقصود الشارع الحكيم هو النكاح، وحصول النسل، والمهر على أهميته ليس إلا سببًا في النكاح، وتقديرًا للمرأة، وسببًا في دوام العشرة، وليس هدفًا في ذاته. الكفاءة ليست شرطًا وأضاف باحارث: والشريعة لا تعتبر الكفاءة بين الزوجين شرطًا في صحة النكاح، فإن النكاح بين مسلم ومسلمة، بشروطه الشرعية، مع انعدام الكفاءة بينهما: صحيح؛ إذ لم تجعل الشريعة السمحة انعدام الكفاءة بين الزوجين عائقًا للنكاح، وإنما أقرَّتها تطييبًا للنفوس التي لا تطيق التنازل عنها، فهذه زينب بنت جحش رضي الله عنها، على جلالة قدرها، وعظيم شأنها في الإسلام لم تكن على وفاق مع زوجها زيد بن حارثة رضي الله عنه من جهة الكفاءة، حتى اضطر إلى طلاقها، فإذا كانت النفوس الزكية، التي تربَّت على عين الرسول قد ثقل على بعضها التنازل عن حق الكفاءة فكيف الشأن بغيرها، لا سيما في هذا الزمان الذي غلبت فيه الأهواء، وتعلق غالب الناس بحظوظهم من الدنيا، وأبَوْا التنازل عن حقوقهم؟ التنازل عن الكفاءة وفي ختام حديثه يؤكد باحارث أن الكفاءة بين الزوجين لا تعتبر شرطًا لصحة الزواج فيقول: “وعلى الرغم من أهمية قضية الكفاءة في حياة الناس، ومراعاة الإسلام لهذا العرف الاجتماعي فإن الظروف الاجتماعية المعاصرة، التي أفضت إلى تأخير سن الزواج، وظهور العزوبة في الجنسين، وكثرة العوانس من الأرامل والمطلقات، ومن الأبكار اللاتي تقدمن في السن، مما قد يفضي إلى مخاطر أخلاقية مزعجة للمجتمع، فإن هذا الواقع الملح يُملي على المجتمع التنازل عن شرط الكفاءة في الرجل بصورة كلية أو جزئية؛ بحيث تقتصر على شرط الإسلام، على ألا يكون قد اشتهر بفسق، أو بدعة غليظة، فإن الزوجة تتضرر غاية الضرر بالفاسق أو المنحرف في عقيدته، والعزوبة - على ما فيها - خير لها منه، على ألا يكون هذا المقترح أمرًا عامًا، وإنما لكل حالة طبيعتها وظروفها. الفراغ القاتل ومن جهةً أخرى يُبين المتخصص في الإرشاد التربوي والتوجيه الاجتماعي الدكتور عبدالله سافر الغامدي أن العنوسة مشكلة اجتماعية لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات وأضاف: اجتمعت العنوسة مع الجهل باستغلال الفراغ القاتل، وجاءت مشكلة البطالة، وعدم توفر الوظيفة الملائمة للمرأة، فسبب كل ذلك للمرأة آلامًا نفسية ومنغصات اجتماعية، وربما نتج عنها مشكلات سلوكية، وكوارث أخلاقية، هذه المشكلة تقف وراءها عوامل كثيرة، ومسببات عديدة، ولعل المهور العالية، وتكاليف الزواج الباهظة، ليست من الأسباب الرئيسة التي تقف وراء هذه المشكلة، فهناك عوامل نفسية، تجعل الفتيات يعزفن عن الزواج، ويوصمن بالعنوسة، ومن ذلك: وجود تفكير سلبي لدى البعض من الفتيات، يتضمن أنهن أحسن من الراغبين في الزواج بهن، من حيث المستوى التعليمي والاجتماعي والاقتصادي، أو أن لبعضهن مواصفات خاصة، تنشدها في فتى أحلامها، ولم تجد تلك المواصفات في الراغبين الزواج بها، أو أنهن يقارن بين الراغبين في الزواج بهن، وبين الذين يشاهدنهم أو يسمعن عنهم، أو أن لديهن رغبة في التحصيل العلمي، ونيل الدرجات العلمية المختلفة، مما يشغلهن عن الزواج، وبالتالي يفوتهن القطار (كما يقولون)”. واسترسل الغامدي فقال: “وقد تكون أسرة الفتاة سببًا في عزوف الراغبين في الزواج منها، وذلك نتيجة لسيرتهم المشبوهة، أو لوجود صعوبة في التعامل معهم، أو لإيمانهم بالتقاليد الظالمة، التي تتضمن أن زواج بنت العم لا يكون إلا لأولاد العم أو العمة، أو أن بنت الخالة لا تكون إلا لأولاد الخال أو الخالة، أو لأنهم يعيشون بعيدين عن التفاعل مع المناشط والمناسبات الاجتماعية، أو لأنهم ينشدون صاحب مركز ومكانة، أو ذا دخل مرتفع، وحال ميسور. ولعل المسبب الرئيس يكمن في عقل كل راغب في الزواج، فينشد في شريكة الحياة، من تتصف بصفة الجمال الأخاذ، واللون البراق، كالتي رآها في قنوات فضائية، وقد لا يجدها فيمن حوله، فيلتمسها في الزواج من خارج البلاد. والحل يكمن في قبول الفتاة، بأول قادم جاء يطلب يدها، ما دام صاحب دين وخلق وأمانة، وله عمل يقتات منه، ولو كان في حاله فقيرًا معدمًا، أو صاحب مركز ضعيف، فإن الرزاق سبحانه قد تكفل بزيادة رزقه، قال تعالى: “وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم”. وعليها ألا تتردد في القبول بمن طلب يدها، ولو كان بيده زوجة، فالزوج مسؤول أمام الله تعالى عن صيانتها وحملها ورعايتها، وعسى أن تكرهوا شيئًا، ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا، كما ان على من تأخر زواجها، أن تدعو الذي أوجدها سبحانه، بتيسير أمرها، وإجابة مبتغاها، وألا تيأس، ولا تتعجل؛ فإن مع العسر يسرًا، وإن فرج الله قريب”. ميزان التفاضل ومن جانبه يُشدد الأستاذ المشارك بجامعة أم القرى الدكتور إحسان المعتاز على أن الإسلام وضع ميزانًا عظيمًا للناس، وقال: الميزان الذي أقره الله تعالى هو ميزان التقوى الذي أوضحه الله بقوله: “إن أكرمكم عند الله اتقاكم” وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد زوّج بنت عمته زينب بنت جحش من مولاه زيد بن حارثة وهذا يدل على أن الميزان هو التقوى، وكذلك زوّج عبدالرحمن بن عوف أخته من بلال بن رباح الحبشي. وتعجب المعتاز من أن يتم تقييم الناس حسب صنعتهم وحرفتهم، ويقول: نوح عليه السلام كان نجارًا، وداود عليه السلام كان حدادًا، والنبي عليه الصلاة والسلام رعى الغنم وجميع الأنبياء رعوا الغنم، فهل هذا يقدح فيهم وهم أفضل الخلق عند الله؟ التمييز بين الناس على أساس أن هذا قبلي وهذا خضيري هو من معايير الجاهلية التي تفرق بين الناس، وتجعل الذي عنده هذا النسب يرتفع عن الناس بأمر لا يقربه من الله في شيء كما قال تعالى: “وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحًا أولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون”، فهذا هو المقياس الحقيقي، الإيمان بالله وعمل الصالحات أما هذه المقاييس العجيبة عند بعض الناس التي تجعلهم يرفعون من لا يستحق الرفع وينتقصون آخرين مع أنهم يستحقون ذلك الرفع من خلال تقواهم وإيمانهم بربهم. واختتم المعتاز بالقول: أنا أتفهم مثلًا إن كان الخاطب من بيئة بعيدة كليًا كأن يكون مواطنًا غير عربي؛ نظرًا لأن العادات تختلف والتقاليد في بعض البلاد وقد يكون هذا صحيحًا، لكن أن يكون هناك إنسان من نفس البيئة ومسلم ولديه وظيفة ثم لا يقبل به؛ لأنه من القبيلة الفلانية أو أنه أقل نسبًا فهذا شيء عجيب. ثم من أنبأ هؤلاء بأن قبائلهم هي الأفضل؟ فكل إنسان يرى أن نسبه وقبيلته أفضل قبيلة، وحقيقة ألاحظ أن بعض المتدينين ما يزالون مقتنعين بهذا الأمر وحقيقة هذا يدل على نقص في تدينهم، وفي ذات الوقت تجد أناسًا أقل منهم في العبادات لكن لا تجد لديهم الشعور الفوقي الداخلي على الآخرين فهؤلاء أكثر تدينًا من أولئك، لأن هذا أمر داخلي وهو من أعمال القلوب التي هي مقدمة على أعمال الجوارح والحقيقة هذه ظاهرة مؤسفة أن يتقدم للأسرة رجل صاحب دين فيردونه لأنه ليس كفؤًا لها، ثم يتقدم لها رجل فاسق لا يصلي وربما كان يشرب الخمر ويقبلونه لأنه من نسبهم وقبيلتهم ويتشرفون به.