في الليلة السابقة لليلة الشك من هذا العام، صلّيتُ -في طريق عودتي إلى المنزل- صلاة العشاء في أحد مساجد جدة الكبيرة. وقد قرأ الإمام في الركعتين الجهريتين الآيات الأُولى من سورة الرحمن في مقام العجم. فصعد إلى طبقات عُليا رائعة من المقام. ولكن -للأسف الشديد- كان يقفز ناسيًا الآية والآيتين. فعلّلتُ ذلك لفرط حرصه واهتمامه باللّحن عن القراءة، وليس لسوء حفظه، أو عدم إجادته، لأن سورة الرحمن من سور القرآن العظيم التي يسهل حفظها في جلسة واحدة، لو فتح الرحمن عليك. ولقد أصبح من الملاحظ في السنوات الأخيرة حرص كثير من الأئمة على تعلّم المقامات لتحسين قراءتهم وتجويدها. ولكن المطلوب هو الاهتمام بالتجويد القرآني أولاً قبل الاهتمام بذلك، كما نُقل عن شيخ القرّاء في المدينةالمنورة الشيخ إبراهيم الأخضر الذي قال: ‘‘يجب على قارئ (وحافظ) القرآن إتقان القراءة بأحكامها وتجويدها على الوجه الأكمل قبل الاطلاع على الألحان''. ما من شك في أن الصوت الحسن، والقراءة الجميلة تعين على الخشوع والتدبّر، وخصوصًا في القراءات الطويلة كصلوات التهجد والتراويح. ولكن الأولوية هي وجوب الحرص على النطق، ومخارج الحروف، ووقفات القرآن اللازمة والمباحة، وغير ذلك من علوم القرآن وتجويده. فلو أُهمل ذلك، فقد حُرّف في القرآن، وتغيّرت المعاني، ونتج عن ذلك إثم عظيم. وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ‘‘ليس منّا مَن لم يتغنَّ بالقرآن''، لا ينحصر معناه في الترنم بالقرآن، وتحسين الصوت فقط، بل فسّره بعضهم بالاستكثار، أي الغنى وليس الغناء. وإن كان المعنى الأول في اللغة أقرب. صلّيتُ مرة صلاة القيام في أحد مساجد مدينة حجازية، فتناوب الإمامان قراءة جزءٍ تلك الليلة في مقامات السيكا، والجاركا، والنهاوند، والحسيني (البياتي)، والصبا، والحجاز بأنواعه، فأحسستُ بعد خروجي، كأن رأسي تدور، وكأنني حضرت حفلة إنشاد! وهذا شذوذ. فقد ذهب الخشوع وحسن السماع! وللحديث بقية.