فتحت المذياع على موجات إذاعة الرياض عن طريق الصدفة، فإذا بصوت «بدر كريّم» يتسلّل إلى أذني في لقاء أقامه نادي الرياض الأدبي لرموز من أعلام الإذاعة والتلفزيون، فطفقت أستحضر أصواتًا إعلاميّة كان لها حضور لا ينسى. تساءلت هل يمكن أن يُخطئ المرءُ أصواتًا فريدَة النبرة كأصوات هذا الجيل الفارط؟ وهل يمكن أن يكون هناك صف ثانٍ وثالث يجيد ذات الحضور.؟ أظن أكثركم مثلي ففي طفولتي، وقبل أن يستقيم وعيي لأدرك ما يحدث في العالم من أحداث، أحببتُ نشرة الأخبار رغم عدم فهم محتواها. أجيال كثيرة تمنّت من أعماقها أن تكون ضمن قائمة مذيعي التلفزيون، فقط عبر أصوات ماجد الشبل وغالب كامل وجميل سمان وسليمان العيسى. أجيال غرُمت بالعربية وإيقاعها الموسيقيّ، عبر لسانهم المثقف المتحرر من اللَّحْن والعَوَج. أجيال كاملة اكتشفت جمال اللغة من أولئك الكبار، وعلمت منذ الطفولة أن نطق جملة سليمة نحويًّا وصرفيًّا كفيل بأن يجعل الموسيقى تطفر من بين ثنايا الكلام دون الحاجة إلى معرفة بتفاعيل الخليل وأوزان العَروض. كنتُ، مثل أبناء جيلي، ننتظرُ بشغف تلك إطلالتهم لنترك ما بين أيدينا من «سقطه وكيرم وصلصال وقصٍّ ولصق ولعبة الكبريت، وألغاز، وكرة قدم»، نركض مسرعين لنجلس أمام التلفزيون صامتين، لنكتشف مع ذلك الجيل “عوالم كثيرة ومنوعة” في برامج موجهة أصلًا للكبار، تتحدث عن المبتعثين وعن قضايا الكبار ومشكلاتهم وما يؤرقهم، وعن قصور يرصده سليمان العيسى في جهة ما، أو حوار يجريه هؤلاء مع مسؤول؛ لا تدرك كثيرًا مما يُقال، لكنك تستمع بهيبة الحضور وحلاوة النطق. كنا رغم صغرنا نشعر وكأن تلكم البرامج موجهة لنا نحن الأطفال، رغم عمق المحتوى وسقف الطرح العالي، حتى ذلك الشعر الذي يلقيه ماجد الشبل العروضي المصرّع والمقفّى، ورغم كونه عميق الصورة، وجزل العبارة وفوق فهم الطفل؛ لكنه كان عبر صوته يتسرّب إلى أعماقنا بلطف فستعذبه. ومع مرور الوقت تعلّمنا منه ومن هؤلاء أنه: بوسع الكبار أن يُدخلوا الصغار عالمَهم، وأن يدخلوا عالمَهم الصغير، ويعيشوا أحلامهم وأفكارهم فقط متى قُدّر لهذه المنابر أن تظفر بمثل هؤلاء. لم نتعلم من معلمي اللغة العربية أكثر مما تعلّمناه منهم عبر السماع من قواعد النطق. لم نلتحق بدورات في مهارات العمل التلفزيوني والإذاعي، ولا في كاريزما واتيكيت وأساسيات الحضور عبر المذياع أو خلف الشاشة، ومع هذا أدركنا من «هؤلاء النخبة» حتى دون أن ينطقوا بكلمة واحدة في هذا المجال. أدركنا عبر حضورهم البهي أن من أهم تلك الأساسيات أن تمتلك القدرة على الحضور عبر تلك الابتسامات العذبة، وأن تعمل جهدك لأجل أن يكون صوتك ضمن قائمة الأصوات الذكية. وأنه من المهم أن تمتلك الحضور الرصين، والثقافة الموسوعية لكي تكون خالدًا في أذهان المتلقين. لم يقل هذا لنا أحدهم؛ لكننا فهمنا منهم أنه لكي تكون رمزًا ومميزًا فعليك أن تؤمن أن إتقان العمل واجبٌ وعبادة. وأن عليك أن تشتغل على نفسك جيدًا لكي تصل ل“المكانة” لا المكان. وهؤلاء بالفعل هم أبناء جيل آمن بأهمية تلك القيم وتشربها فنجح. تعجبت كيف أن عظيمًا في مجاله «كبدر كريم» يحكي عن ذكرياته في تلك الليلة مع العمل الإذاعي، فيقول: في بداياتي قال لي الشيخ حمد الجاسر: “أنت لا تصلح للعمل الإذاعي”، فخرجت أبكي من قسوة هذا الرأي، فصممت أن أثبت أنني أصلح، وآمنت أن الطريق شاق، فذهبت أتعلم وأقرأ واستمع». أي إنه باختصار ذهب نحو «الاشتغالُ على النفس» رغم أنه –أي الاشتغال على النفس– والعمل على إنضاج التجربة، وجعلها مشروع شخصي مهمّة عسيرة، بل غاية في الصعوبة؛ ولكن لا يعرف حلاوتها إلا من اجتهد على نفسه ليصنع منها كيانًا جميلًا. شيءٌ يصنعه الإنسان يشبه عمل البنّاء الماهر الحاذق، الذي لا يهمه أن يقيم الجدار بأسرع وقت، بل المهم كيف يقيمه بأجمل شكل، فيطفق يبنيه حجرًا حجرًا وظفرًا ظفرًا ومدماكًا مدماكًا يسويه يعيد الأحجار مرارًا إلى مساعديه؛ لتسويتها ولإزالة الزوائد منها ينزل من فوق الجدار ليشاهد تناسق بناءه، ويقيّم ما أنجزه، ثم يعود مجددًا لاعتلاء المدماك واستكمال بناءه منها حتى يظهر الجدار متسقًا جميلًا تبدو فيه آثار الصنعة وحذاقة الباني ومهارة اليد التي أنجزته. هؤلاء كان واضحًا أنهم ممن يجيدون الاشتغالُ على بناء العقل قبل الممارسة. وتدريبُ اللسانِ على سلامة القول، وقبله دربوا النفس على احترام الآخر، والأُذن على الإصغاء، وغيرها من فنون الحضور، التي لم نعد نراها على شاشاتنا وعبر موجات الإذاعة، أو لنقل: قل حضورها كثيرًا، وإن كنت أجد في أسماء «يحيى الصلهبي، ومحمد الرديني» رائحة تميز وجمال تجربة. ترى ما الذي ذكّرني بهؤلاء الرموز في المجال الإعلامي المرئي والمسموع؟ الحقُّ أنني أتذكّرهم وآخرين على غرار “بدر كريّم ومحمد الشعلان وإبراهيم الذهبي وحسين النجار” كلما صدمتني ركاكةٌ على شاشةٍ أو سقوط لغوي عبر الأثير.