بقدر ما حفلت به أسوار المنطقة التاريخية العتيقة «المشرعة» على مئات الدكاكين، وآلاف الباعة والمتجولين بوسط البلد بجدة من عبق زمني قديم، قدم التاريخ نفسه من خلال ما تم من حفريات، أسفرت عن وجود العديد من القطع الأثرية التي تعود إلى أزمان غابرة هناك؛ بقدر ما استلزم ذلك حضورًا مماثلًا واهتمامًا يبدو مفقودًا من قبل الباحثين والمختصين في شؤون التاريخ والتراث والآثار، وهو الأمر الذي يشير إلى عدد من المهتمين بالتراث والآثار، غير أن مدير مكتب الآثار والمتاحف التابع للهيئة العامة للسياحة والآثار والمشرف العام على متحف قصر خزام التاريخي محمد السبيعي يرى أنه: لم يكن هناك إهمال علمي متمثل في عدم الاكتراث بالحضور لمثل هذه المناطق الموغلة في التاريخ، وعمل الأحافير واستخلاص البحث فيها، بل هناك ضعف في إمكانات أمانة جدة في مجال الترميم، وتضعف مماثل لدى الهيئة العامة للسياحة والآثار في الحفر والتنقيب، والتي تستعين بمراكز البحث العلمي في جامعة الملك سعود فقط دون النظر إلى مراكز البحث التاريخية في الجامعات الأخرى. ويتابع السبيعي حديثه مضيفًا: إن ضعف التنقيب يعود إلى تكلفته العالية، إذ يستوجب ميزانية ضخمة إلى غيرها من الوسائل المساعدة والتي لابد لها من أن تتوفر كي يتمكن الباحثون من التنقيب بشكل جيد، والأمر المبشّر أن هناك تعاونًا يجمع الهيئة ببعض الجامعات الخارجية والتي تقوم بعمليات البحث والتنقيب في أماكن كبيرة كمدائن صالح في العلا على سبيل المثال، وأرجو أن يتم التنقيب من قبل تكليف وكالة الآثار والمتاحف التابعة للهيئة لمتخصصين في التنقيب في قصر علياء الأثري بالجحفة برابغ لكبر المكان ولأنه يحوي المقبرة والقصر والسوق. الكاشور المنقبي ويشير السبيعي إلى أنه سبق وأن أجرى تنقيبًا في أحد المواقع الأثرية التابعة للمنطقة التاريخية بوسط البلد بجدة لافتًا إلى أن الموقع الأثري والذي شمل البحث هو وقف الفلاح والذي يقع في حارة اليمن في منتصف وقف البسيوني وبيت أبوحنيفة بالقرب من بيت نصيف وإلى الجنوب منه، ماضيًا إلى القول: من خلال التنقيب نجد أنه قد تم استخدام الحجر المنقبي في البناء والذي يطلق عليه «الكاشور»، وهي الطريقة المستخدمة قديمًا في جميع مباني جده التاريخية. وقد جرى التنقيب الأثري داخل مساحة وقف الفلاح حيث وجدت إشارة سطحية على جدران الحائط الذي تم التنقيب بجواره وهذا دليل على الشاخص وهو عبارة عن وجود ما يشبه شكل باب قديم ويعلوه قوس دائري في جدار الحائط الشرقي للساحة في وقف الفلاح من الداخل، وبعد مسح الموقع الأثري قمنا برسم خريطة لهذا الموقع توضح هذا الدليل الأثري من خلال الصور والتي التقطت له، كما قمنا بعد ذلك بعمل مجسمات مربعة صغيرة، وتم الحفر فيها كلٌّ على حدة، ونظرًا لقدم الحائط المتهالك المبني بالحجر المنقبي والشعب المرجانية استوجب أخذ الحذر والحيطة في عملية التنقيب؛ خوفًا من وقوع مثل هذا الجدار المتهالك، وتم الانتهاء والحمد لله بسلام، وكانت المساحة الكلية التي تم بها التنقيب عبارة عن شكل مربع بجوار الحائط تبلغ مساحته 6×6 بعمق 3 م. المدفع والقلةّ ويواصل السبيعي حديثه بقوله: من خلال الحفر وجدنا تتابعنا للطبقات مما يدلل على قدم المبنى واحتمال وجود مبانٍ قديمة تحت هذه المباني القائمة، كما تم العثور أيضًا على عدد من الكسر الفخارية المتنوعة متفاوتة في أشكالها وأحجامها، وتم تصنيفها تصنيفًا نوعيًّا حسب أشكالها، وطرق صناعتها؛ حيث تمثّل كل مجموعة نوعًا واحدًا، وكذلك تم العثور على العديد من الكسر الخزفية ذات الأرضية البيضاء المزخرفة بأشكال متباينة والمغطاة باللونين الأزرق والأخضر، وتم تصنيفها، إضافة إلى ما وجد من القطع المعدنية والتي نرجّح أن تكون نوعًا من العملات، ومما تم العثور عليه من بعض المقتنيات الأثرية من قبل أمانة جدة أثناء عملهم في ترميم وقف الفلاح وإعادة تأهيله «الرحى» وهي أدوات مصنوعة من الحجر الجرانيت كانت تستخدم في طحن الحبوب، وكذلك «مهراس» من الحجر لدق الحبوب وطحنها، وكذلك عثرنا على خنجر قديم وكرات أو قلل معدنية أرجح أنها كانت تستخدم في المدافع سابقًا، وهي موجودة لدى الدكتور عدنان عدس حاليًا. 300 قطعة أثرية ويشير السبيعي إلى الطريقة التي اتبعها في البحث أثناء الحفر بوقف الفلاح بالمنطقة التاريخية بقوله: تم تحديد الموقع من خلال الشاخص على سطح الأرض: وهو عبارة عن فتحة على شكل قوس نصف دائري في حائط ساحة وقف الفلاح من الداخل وقد لاحظ هذا الدليل فوق سطح الفلاح الدكتور عدنان عدس نفسه مسؤول حماية المنطقة التاريخية بأمانة جدة أثناء ترميمهم للوقف (وقف الفلاح) الكائن بحارة اليمن القديمة، فقمت بعدها بتسجيل بعض الملاحظات التفصيلية حول مكان الموقع ونوع الدليل الأثري الشاخص على سطحه، كما التقطت بعض الصور لهذا الموقع الأثري، وبعدها تم تقسيم السطح إلى مربعات صغيرة، مع تسجيل المواضع التي وجدت فيها الأدوات، وكما هو معروف يعتمد التنقيب على نوع التربة والمناخ، ونظرًا لقدم الحائط وخوفًا من سقوطه تم التنقيب بحذر شديد، وتم استخدام المحافير الصغيرة والمسطرين والفرش، كما تم القيام بغربلة التربة بغربال سلك حيث تم الحصول على عدد من القطع الفخارية حوالى 300 قطعة، وكذلك عدد من الخزف حوالى 100 قطعة، ومعثورات صغيرة (غليون، خاتم نسائي، وبعض القطع المعدنية التي لم يتم التعرف عليها بسبب الصدأ الذي كان يغطيها)، بعدها قمنا بتصوير وإحصاء المعثورات التي وجدناها ثم قمنا بتصنيفها إلى مجموعات وفقًا لأنواعها ومواقعها. ويمضي السبيعي في حديثه بالقول: من خلال قيامي بالحفر والتنقيب في وقف الفلاح اتضح أن المدينة تعود إلى فترات زمنية قديمة جدًّا مما يدلل على وجود العديد من القطع الأثرية المختلفة تحت أنقاض هذه المباني بالمنطقة التاريخية خلافًا لما تمثله المباني القائمة من حضارات عريقة عاشتها مدينة جدة حقبة من الزمن، لذلك أرى من الواجب أن تتخذ الهيئة العامة للسياحة والآثار مقرًّا لها بالمنطقة التاريخية يمكنها من المحافظة على المنطقة التاريخية وتطويرها كون المنطقة مهددة بمشروعات البناء والتنمية.. فالهدف من هذه الحفريات في هذه المنطقة الحيوية تحديدًا هو التعريف بمدينة الحب والسلام (جدة) وما مرت به هذه المدينة من حضارات عريقة وعديدة وما حظيت به كباقي مدن المملكة العربية السعودية من رعاية واهتمام منذ عهد مؤسس هذه البلاد جلالة الملك المغفور له بإذن الله تعالى الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود يرحمه الله، إلى عهد باني النهضة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز أمدّ الله في عمره. أهلية التنقيب ويعود السبيعي إلى تحديد الجهة المسؤولة عن التنقيب بقوله: مثلما تم العمل في هذا الموقع يجب العمل أن تقوم الجهة المشرفة على أعمال الترميم وقبل الشروع في أعمال التنقيب بالتنسيق مع وكالة الآثار لدراسة الموقع من قبلهم للتأكد منه والتعامل معه بطريقة علمية والتعامل مع أي موجودات أثرية قد تكون مطمورة في الموقع لدراستها وعمل الحفريات اللازمة لذلك، والاستفادة منها بنقلها إلى المتحف لعرضها أو تركها في موقعها حسب ما تراه الوكالة مناسبًا، ويجب أن يكون التنسيق مطابقًا لجميع المباني التاريخية بالمنطقة التاريخية قبل الشروع بالعمل في أي موقع بحيث يكون إلزاميًّا في جميع الأعمال الأخرى التي يتم تنفيذها بالمنطقة التاريخية قبل أخذ موافقة وكالة الآثار؛ وذلك حفاظًا على أي آثار قد تكون موجودة في هذه المواقع. صعوبات التنقيب الدكتور هشام عجيمي أستاذ قسم الفنون والعمارة الإسلامية بجامعة أم القرى عزا غياب البحث والتنقيب عند عموم الجامعات إلى غياب الوعي العلمي إزاء الغياب الثقافي لدى قاعدة العموم والتي أشار فيها إلى أن برامج التنقيب في الجامعات تتيح المجال للعمل على الحفر والتنقيب في المواقع الأثرية ولكن الإشكالية تكمن في صعوبة الحصول على موافقة من وكالة الآثار والمتاحف والتي ترضخ في أمور كثيرة لتوجهات التيار الديني الذي يصطدم في أحايين كثيرة بمثل هذه البرامج البحثية.. كما أن الحفر والتنقيب وما يتعلق بها من برامج لا تنفذها إلا جامعة الملك سعود فقط دون الالتفات إلى عموم الجامعات السعودية الأخرى ومنها جامعة أم القرى منذ أن أنشئ قسم التاريخ في الجامعة عام 1395ه إلى الآن والتعاون مفقود بين جامعة أم القرى والجهات المعنية الأخرى والتي تعنى بالآثار حتى إن رائد الآثار أ.د عبدالرحمن الأنصاري سبق وأن استكشف من خلال التنقيب مدينتي الربدة في المدينةالمنورة ومدينة الفاو جنوب المملكة، وواجه صعوبات لدرجة أنه استجوب في إحدى المحاكم واستتيب، وقد حدث هذا قبل أكثر من 25 سنة، رغم اختلاف الوضع حاليًا إلا أن العقلية الدينية المتنطعة المنغلقة ما زالت موجودة إلى الآن، وبرغم أن الدكتور الأنصاري كان مدعومًا حينها من المرحوم والمغفور له بإذن الله تعالى الملك فهد بن عبدالعزيز، حيث كان يرحمه الله يؤيد البحث والتنقيب عن الحفريات وغيرها من الجوانب التاريخية. ويتابع العجيمي حديثه قائلًا: إن الحلقة المفرغة بين جامعة أم القرى والهيئة العامة للسياحة والآثار يعود إلى أحد أمرين؛ إما غياب التواصل بيننا أو عدم الاعتراف بنا وبما حققناه من شهادات علمية، هذا غير الحقيقة الغائبة أن هناك ما يقارب من خمسة أكاديميين في جامعتنا على درجة أستاذ دكتور أي يحملون شهادة «بروفيسور»، نعم هناك حلقة مفرغة بين عموم الجامعات وجامعتنا جامعة أم القرى بالتحديد والهيئة العامة للسياحة والآثار، والشاهد على ذلك أنه عندما استكشف بيت زوج الرسول صلى الله عليه وسلم السيدة خديجة رضي الله عنها بالقرب من الساحات الخارجية للمسجد الحرام، كان الأمر يستدعي وجود مختص أثري من جامعة أم القرى، ولكن ذلك لم يحدث، ولم نعلم شيئًَا عن هذا الأمر إلا بعد أن انتهت اللجنة القادمة من الرياض ونحن هنا لم نعلم شيئًا.