في محاولة من المفكر البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري للاقتراب من “ظاهرة” “غازي القصيبي” يراه ظاهرة متداخلة ومتشابكة، وعلى المثقف العربي أن يعرف كيف يفككها ويقاربها ويتعامل معها. ولأن هذه “الظاهرة” نسيج حي، فليس من السهل أن ترد بيسر إلى عناصرها الأولية. وباعتبار الدكتور “الأنصاري” مؤرخًا للثقافة فإن “غازي القصيبى” يبدو له كرجل نهضة بالمعنى الواسع لهذه الكلمة، تمامًا كرجالات النهضة في ثقافتنا الحديثة. فقد تناول “القصيبي” عدة فنون كتابية، وتولى مهامًا وأنشطة عديدة على الصعيد الوطني وزيرًا وسفيرًا. في شهادته التي يتضمنها الكتاب الجميل والفخم “الاستثناء.. غازي القصيبي شهادات ودراسات” يتوقف الدكتور جابر الأنصاري أمام بعد في شخصية القصيبي يعتبره الأهم والأخطر بعد “المصلح من الداخل”، فلعل القصيبي “أبرز المصلحين من الداخل” في منطقة الخليج والجزيرة العربية. فالرجل لم يكن موظفًا بيروقراطيًا في يوم من الأيام على تعدد المناصب الكبيرة التي تولاها، وظل غازي القصيبي نظيف اليد والذمة ولم تتلوث يده بحرام المصلحة العامة، وما زال الرجل كذلك. ومهمة المصلح من الداخل -في رأي الأنصاري- من أخطر المواقع وأكثرها تعرضًا للنقد وإثارة للحفائظ. فالمحافظون ينظرون للمصلح باشتباه ويعتبرونه خطرًا على النظم التقليدية القديمة. والراديكاليون المتعجلون ينظرون إليه أيضًا بالريبة ذاتها لاعتقادهم أنه يطيل من عمر الواقع الذي يريدون تغييره جذريًا. ولكن من يتأمل في منطق التاريخ والتطور يرى أنه لا الجمود يحمي التقاليد، ولا التعجل الراديكالي يحقق شيئًا. ينهى الدكتور الأنصاري شهادته، قائلًا: “ليس القصيبي بالمتمرد العقائدي، كعبدالله القصيمي، ولا بالمتمرد السياسي كعبدالرحمن منيف، لكنه يمثل النموذج الثالث “نموذج المصلح من الداخل”، وذلك رهان كبير وخطير، وطريقه ليس مفروشًا بالورود، فهل ينجح؟ سؤال بحجم المستقبل. وتتساءل الأديبة اللبنانية “غادة السمان” في شهادتها: كيف استطاع غازي أن يبحر طويلًا هكذا في الأنواء وأهوال محيطات الزمن والأقطار وقارات الكتابة والحزن والخيبة والانتصارات والجراح دون أن يتبدل إلا إلى الأفضل ؟!.. ربما لأن غازي القصيبي لا يعرف الرضا الطاووسي عن الذات، بل يظل نضر العطاء، ولا يتكلس داخل قشرة العظمة الذاتية كما حدث للكثيرين سواه من الأقل شهرة وعطاءً ونجاحًا، كما أنه يجسد التواصل بين الأجيال حين نتطور دون أن نتنكر لفضل من سبقنا؛ ولذا نجح في التجاوز دون قطيعة مع الماضي. يشهد الناقد الدكتور عبدالله الغذامي بأن الناس يختلفون حول غازي القصيبي حتى لتبدو الصورة وكأن المجتمع كله ضده، ويتفق معه الناس حتى ليبدو وكأن المجتمع كله معه، يكتب الشعر وكأنما شاعر فحسب، ويكتب السرد حتى لكأنما هو سارد لم يجر الشعر على قلمه قط، ويجري المقابلات صحافيًا وفضائيًا وكأنما هو رجل حر لا يقيده منصب ولا علاقات رسمية خاصة ودقيقة، ولربما شعر زملاؤه في الصف معه خوفًا عليه. وخوفًا على وقار المقام المصان بالحصار والرسميات، ولكن كل هذا يمر لتتأسس صورة رمزية لرجل مختلف حتى ليظهر اختلافه وكأن لا شيء يهمه. يضيف الغذامي: “يعجب الناس بالقصيبي ويغارون منه، وينتسب باسمه وشخصه إلى الجميع، فهو وزير مع الوزراء، وهو شاعر مع الشعراء، وهو روائي مع الروائيين وهو مترجم ومفكر وهو حر ومقيد في آنٍ. على التاريخ تقول الأديبة الجزائرية أحلام مستغانمي: “إن يوثق السخاء الإنسانى لكاتب لم يعرف المكائد ولا الدسائس المتفشية منذ الأزل بين أهل القلم، يداه نظيفتان من جرائم الحبر. طهر قلبه الذي يأبى أن يكبر كأنه جاء ليكتب وعاش ليهب دون أن ينسى أثناء ذلك الضحك من كل شيء، ومن نفسه قبل كل شيء، وهو باذخ الحزن، وسيصعب عليك في الحالتين أن تبلغه.. شاهق هذا الشاعر وطفل حتى كأن أحفاده أكبر منه. صادق لا يعرف الحذر. لم يكتسب خبث الشعراء وغرورهم ولا توجس السياسيين وحيطتهم. وفي غازي القصيبي تقول الشاعرة الكويتية سعاد الصباح: “يتحد الإداري المسلح بالعلم بالشاعر المسلح بالقصيدة الغاضبة، ورغم التناقض إلى حد التنافر بين الطبعين إلا أن الشاعر غازي القصيبي استولى على مكنونات الروح العلمية، وجعل كل إنجاز له مهما بلغ من التفرد، وعلا في القياس، يغيب أمام قصيدة يطلقها أو رواية تخزن تجربة ذاتية صادقة، وهي السمة الأخرى فيه، والتي وضعته في المرتبة العالية التي يستحق”. يصف الكاتب اللبناني سمير عطاالله في شهادته غازي القصيبي بالشاعر والروائي والإداري والمفكر والكاتب السياسي، ويقول بأنه عقل نادر في تعدده وتنوعه، وعندما تتعدد المواهب في رجل ينخفض بعضها ويرتفعن لكن مواهب غازي القصيبي مثل مرتفعات كليمنجارو، وعندما يشعر المرء أنه على هذا القدر من الموهبة يميل إلى إهمال الاجتهاد، لكن غازي القصيبي ناسك من نساك الوقت، وحارس من حراس العمل والكد والاجتهاد والعطاء، وأستاذ كبير قد يعرف عدد الذين تخرجوا على يده لكن أحدًا منا لا يعرف عدد الذين تتلمذوا عليه أو عدد الذين ثمنوا ذلك.