مِنْ حسنات هذا الانفتاح الإعلاميّ المهول، ومِنْ بَرَكات هذا التّواصل التّقنيّ المدهش أنْ أخرج لنا أصواتا متعدّدة، تأخذ حظّها من الرّأي والاجتهاد؛ بعد أن كنّا لا نسمع سوى صوتاً واحداً بات لعدّة عقود هو الصّوت المسموع والمهيمن! لقد أبَانَ الانفتاحُ الإعلاميّ أنّنا إلى عهد قريب (مأسورين) حدّ المَسْكنة والتّخاذل يجرنا يمنةً وشمالاً صوتٌ واحدٌ: إنْ قالَ قولاً بِتْنا خلفه مأسورين، وإنْ أمْسك عنّا وأبى أصبحنا في زُمْرة المساكين. ونحن إذْ نحمد لهذا الانفتاح الإعلاميّ، ولهذا الصّوت القادم بقوة؛ فنحن نحمده حين يسْترّشد طريق الحق لا الباطل، بعثاً من جديد لدُرُوب الخير لا الشّر، حاثّاً على حرّيّة نسعى إليها تحتضن في ثوبها الانضباط لا الإنفلات والفوضى. إنّ كلّ أبواب الحرّيّة إذا خَلت من جانبيّ الإنفلات والفوضى فهي لا شكّ أبواب خير وسعد؛ ولكنّها حين تفقد ذلكم العنصرين تصبح وبالاً وشرّاً ومستطيراً على دُعاتها والقائمين عليها!! لقد كَشَفَتْ لنا الفتاوى الأخيرة عن مجموعة من المكبوتين أقبلت إليهم فرصة الظّهور والبروز وإبداء الرأي؛ فشمّروا عن سواعدهم، وتقوّت مفاتلهم؛ فأصدروا بياناتهم – فتاواهم- ودبّجوها بالحرام، والمستحب، والجائز. العجيب أنْ تستشري أمثال هذه الفتاوى بدون رأيّ أو اجتهاد، وتنتّشر كانتشار النّار في الهشيم وهي لا تستند إلى الدّليل، ولا تقوم على البرّهان فأصبحت مدعاة إلى الانفّلات ومظنّة السّوء؛ فغدا الواحد من هؤلاء يلتقط الكلمة من كِتاب و الجملة من رأي متصيّدًا فضلات الفقه الإسلاميّ؛ سعيًا نحو إسقاطها على خلق الله الضّعفاء، بعد أنْ سوّغها لنفسه ولمن حوله سادّاً بها الأعين كي لا ترى، والآذان كي لا تسمع، والعقول كي لا تعمل حتّى استحال الأمر إلى وجوب إلغاء كلّ تلك الحواس؛ فلا تعمل إلاّ بالمقدار الذي يتناوله التّشويه والخلط والإسفاف!! فهل يصحّ أن يُعالج هؤلاءِ على أنّ بهم مرضٌ عقليُّ أو نفسيٌّ فيتداوون على هذا الأساس، ويُصْرف لهم العلاج على هذا النحو؟! إنّه لمرض -لا شك فيه- تُعرف أسبابه، وتتبيّن عوارضه بعد أن اختصّ هذا العصر بالأمراض النّفسيّة والعوارض العقليّة! ففي العُصُور الغابرة كان الجاهلُ الذي يعلم من نفسه قصور العلم والاجتهاد يَخْجل من إقحام نفسه في مجال الإفتاء، ولا يخفي اجتهاده لمشابهة غيره ممّن هم أعلم منه بتلك المسائل؛ ولكنّه في هذه الأيام يسيء فهم الفتوى والاجتهاد ظنّاً بالحرّيّة المعطاة أنْ تشفع له، وتصون ما أقدم عليه؛ ويزعم وهو زعمٌ باطلٌ أنّ حرّيته في إبداء الرأي تمحو الفوارق بين الآراء، وأنّ قدرته على التّعدي على قداسة الفتوى تخوّله تَنْحيت الصّحيح وصرفه عن العارفين بشؤون الفتوى وأبواب الاجتهاد؛ فمثلهم كمثل من يتخطّف أوائل الكلمات فيتعالمون بها على من يجهل حقيقتهم، كما يجهل حقيقة اللغو الذي يبدؤون فيه ويعيدون! فأصبحت الفتوى ببعدها العظيم، ومكانتها الجليلة بيد أولي العبث يتفنّنون في إصدارها، وأضحت بين عشيّة وضحاها لعبة بين يد العابثين متناسين إنّها توقيع عن ربّ العالمين سبحانه وتعالى. والمدهش حقًا أنّ هذه الأسماء أصبحت بين عشيّة وضحاها معروفة و مشهورة؛ ولو بحثت عن كتاب فرد لواحد منهم لن تجد ولو أعياك البحث وأجهدك التّعب؛ إنما هي طقطقة في سماء فارغ وأجواء خاوية تتحسّس كلّ صوت ناعق يستحث الخطى نحو كلّ ناهق! ولقد صعدت في ظلّ ذلك أصواتٌ لم يكن لها أن تظهر، وبزّت في سماء الشّهرة أسماء لم يكن لها أن تبزّ؛ وفي قادم الأيام سيرينا هذا الانفتاح الكثير من تلك الأسماء وتلك الأصوات. فانتظروا إنّي معكم من المنتظرين..!!