لم تكن الأقدام وحدها هي التي تتنافس في ملاعب مونديال جنوب إفريقيا، فالذين تأهّلوا إلى الأدوار النهائية كانوا يتنافسون في كل شيء، من السياسة، إلى التعليم، إلى الرعاية الصحية، إلى الإعلام، إلى حصة الفرد من الناتج الوطني الإجمالي... كل شيء.. ولهذا كان طبيعيًّا أن نشاهد التنافس منذ البداية حول مَن يستضيف المونديال، بكل ما تتطلبه الاستضافة من بنية تحتية هائلة في الملاعب، والفنادق، والطرق، والرعاية الصحية، والمطارات، والأمن، والإعلام، وكذلك بمقدار ما تتمتع به الدولةالمضيفة من شرعية تصون توازنات الداخل، وتتيح قبول الخارج، وكان طبيعيًّا كذلك أن نرى انزعاجًا فرنسيًّا حد الاستنفار داخل الإليزيه عقب الخروج “المذل” من كأس العالم، كما كان طبيعيًّا كذلك أن نرى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تقفز من الفرح، فيما يتلقى رئيس الحكومة البريطانية عبارات التعازي والمواساة إثر هزيمة فريقه الثقيلة من المنتخب الألماني، الذي عزا فارسه الأول فرانز بيكنباور تفوقه هذه المرة إلى التركيبة العرقية الجديدة التي أتاحتها قيم تسامح عرقي لم تكن معروفة لدى الألمان الذين ضم فريقهم لأول مرة لاعبين من أصول تركية، وعربية، وإفريقية، وآسيوية، دافعوا جميعهم عن ألوان العلم الألماني، وأنشدوا معًا النشيد الوطني الألماني كمواطنين ألمان، لم يحرمهم لا لون البشرة، ولا الدِّين، ولا العرق من شرف اللعب ضمن “المانشافت”. المشاهد المجردة في المونديال قد لا تكشف بذاتها عن خلفياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن أن النتائج وحدها لا تقوم دليلاً على النجاح المطلق، أو الفشل المطلق لدولة ما من الدول المتنافسة في المونديال، فلا أحد مثلاً يمكنه القول إن الولاياتالمتحدة دولة فاشلة؛ لأنها لن تتمكن من بلوغ الأدوار النهائية، فأداء أمريكا الاقتصادى والسياسي والاجتماعي يحقق نتائج هائلة على هذه الأصعدة، قد لا يباريها فيها أي دولة أخرى، كما أن كرة القدم التي يلعبها العالم كله منذ قرابة مئتي عام، هي لعبة وافدة على أمريكا، حرص وزير خارجيتها الأسبق هنري كيسنجر على نشرها، وأسس لذلك خصيصًا فريق كوزموس الشهير، واستقطب له أشهر نجوم الكرة في العالم، بدءًا من بيليه، وليس انتهاءً بديفيد بيكهام، لكن كرة القدم لم تستوطن أمريكا بعد، والأمريكيون لم يعتبروها حتّى الآن جزءًا من ثقافتهم، بل إن فيهم مَن يظن أن لامبالاة الأمريكيين بكرة القدم قد تكون بذاتها مصدرًا للتميّز، حيث لهم ألعابهم الخاصة بهم كالرجبي، والبيسبول، وكرة القدم الأمريكية. ومع ذلك، وبرغم أن صعود غانا إلى دور الثمانية لا يعني أن ثمة نهضة سياسية واقتصادية واجتماعية وصحية تشهدها أكرا، فإن خروج إنجلترا المذل إثر هزيمة ثقيلة من ألمانيا بأربعة أهداف للاشيء لا يعني هو أيضًا أن ثمة انهيارًا سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا تشهده إنجلترا المهزومة، لكن نظرة واحدة على الفرق الأربعة التي تأهلت للدور ما قبل النهائي، قد تكون كافية لاستنتاج أن التفوق في كرة القدم أو في سواها لا يمكن أن يأتي وحده لمجرد أن بعض الأطفال الحفاة في بعض الأزقة الفقيرة كانوا شديدي الموهبة، وإنما ثمة خلطة رقمية للنجاح تعكسها بعض المؤشرات حول طبيعة نظام الحكم (ديمقراطي، أو أوتوقراطي، أو ثيوقراطي)، وكذلك حول معدلات إنفاق كل دولة على برامج التعليم والرعاية الصحية، ومتوسطات دخل الفرد، ومعدل الأمية، وإجمالي الناتج القومي). الفرسان الأربعة للدور ما قبل النهائي في المونديال الأخير بجنوب إفريقيا، هم: إسبانيا التي حلت بالمركز الأول، ثم هولندا في المركز الثاني، فألمانيا في الثالث، وأوروجواى في المركز الرابع. هؤلاء الفرسان الأربعة تشير الأرقام إلى أن متوسط دخل الفرد في الدول الأوروبية الثلاث الأولى حوالى 36 ألف دولار سنويًّا، وأن متوسط الإنفاق على التعليم حوالى خمسة بالمئة من إجمالي الناتج القومي الذي يبلغ في ألمانيا البالغ تعدادها 82 مليون نسمة نحو 2.8 تريليون دولار. وفي إسبانيا البالغ تعدادها 40 مليون نسمة نحو 1.4 تريليون دولار، وفي هولندا البالغ تعداد سكانها 16 مليونًا نحو 380 مليار دولار، في الدول الثلاث ثمة نظام ديموقراطي مستقر، وثمة فصل حقيقي بين السلطات، وثمة إعلام حر، وسوق حر، وتعليم لا يقف عند حدود الماضي، ولا يشق الصدور مفتشًا عن النوايا، وإنما ينطلق لتعظيم القيمة المضافة فيما تنتجه الشعوب، وتبدعه العقول. أمّا الفارس الرابع “أوروجواى” فهو مقارنة بنظرائه في العالم الثالث، قد يكون بينهم الأسعد حظًا، بسكان لا يتجاوزون 3.5 مليون نسمة، وناتج إجمالي حوالى 45 مليار دولار، ومتوسط دخل فردي نحو 13 ألف دولار سنويًّا، وبينما تبلغ نسبة الأمية في أوروجواى نحو 2% فقط من الإنفاق على التعليم يصل إلى حوالى 3% من الناتج الإجمالي. ولديهم في مونفيديو نظام سياسي يتيح تداول السلطة، وبرلمان يمارس صلاحيات حقيقية في الرقابة والتشريع. باختصار فإن ثمة قواسم مشتركة جمعت فرسان المونديال الأربعة، وكما خرج ساسة إسبانيا إلى الملاعب والشوارع ليحتفلوا مع الشعب بالانتصار، في استثمار سياسي واضح لحدث لا يمكن أن يكون رياضيًّا محضًا، فقد حذا حذوهم الساسة في ألمانيا، وهولندا، والأوروجواي، مؤكدين أن الأقدام لم تكن وحدها التي تلعب في ساحات المنافسة المونديالية، وبأن الاستثمار السياسي للانتصارات في كرة القدم قائم في حال النصر، وكذلك في حال الهزيمة، ولعل هذا هو ما صاغ موقفي من المشاهدة طوال البطولة العالمية، فقد بنيت انحيازاتي في البطولة على قاعدة أنني لا أريد لنظام سياسي فاشل أن يداري عوراته بكأس البطولة.