مرت العلاقات السعودية الأمريكية بكثير من الأزمات والصعاب عبر تاريخها الطويل، ولكنها في المجمل حافظت بلا شك على قوتها وعمق دلالاتها وبنائها الذي تعززه المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، بالإضافة إلى التفاهم حول الكثير من القضايا السياسية والاقتصادية. وقد شهد مسار العلاقات نقلة نوعية واضحة منذ زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز للولايات المتحدة عام 2005م، وقد صححت هذه الزيارة الكثير من المفاهيم المغلوطة التي أفضت إليها أحداث الحادى عشر من سبتمبر الإرهابية في نيويوركوواشنطن عام 2001، كما بددت الشكوك وتركت انطباعات ايجابية لدى مختلف الأوساط وأعادت الأمور إلى نصابها الصحيح وإطارها التاريخي. وتتلاقى سياسات وتوجهات المملكة والولاياتالمتحدة في كثير من القضايا الملحة، ومنها ضرورة دعم عملية السلام ونبذ العنف في الشرق الأوسط، وتعزيز مفاهيم الحوار والتعاون لا التصادم، ومكافحة الإرهاب وملاحقة مصادر تمويله، وتعزيز الاقتصاد العالمي للخروج به تمامًا من أزماته المالية المتكررة، والحفاظ على أسعار النفط مناسبة لخدمة هذا الاقتصاد وغير ذلك. ولأن المملكة تمثل دوما أهمية كبرى في حسابات الدول الكبرى في العالم بسبب مكانتها السياسية الرفيعة وموقعها الإستراتجي الهام وقدرتها على التأثير في الأحداث بالمنطقة وامتلاكها أضخم احتياطي للنفط في العالم، ولان الولاياتالمتحدة تملك الأدوات السياسية والاقتصادية القوية التي تجعلها تحافظ على تقدمها وزعامتها للنظام العالمي، كان من المنطقي ان تسعى الدولتان إلى تعضيد علاقاتهما، فأرسلت واشنطن أول بعثة عسكرية أمريكية في ديسمبر عام 1943م بعد الزيارة التي قام بها الجنرال رويس القائد العام للقوات المسلحة الأمريكية في الشرق الأوسط إلى المملكة واتفق خلالها مع الملك عبدالعزيز على إقامة مطار كبير بالظهران بالقرب من آبار النفط وبدأ العمل بإنشاء قاعدة الظهرانالأمريكية عام 1944م وأنجزت عام 1946م لتصبح من اكبر القواعد العسكرية في المنطقة العربية وجنوب غرب آسيا مترجمًاً بذلك التصريح الشهير للرئيس الأمريكي روزفلت في فبراير عام 1943م بأن المملكة أصبحت من الآن فصاعدًا ذات ضرورة حيوية للأمن القومي للولايات المتحدة. وقد ظهر ذلك بوضوح منذ اللقاء التاريخي عام 1945م الذي جمع بين الملك عبدالعزيز -رحمه الله- والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت على ظهر المدمرة الأمريكية كوينسي. وبعد فترات من التوتر في الستينيات والسبعينيات في علاقة البلدين انتهجت واشنطن إستراتيجية جديدة عرفت بمبدأ كارتر في عام 1980م والذي يقضى بأن أي اعتداء على الخليج يُعد اعتداءً على المصالح الأمريكية، وأصبح الخليج ثالث أعظم منطقة حيوية للمصالح الأمريكية بعد الولاياتالمتحدة نفسها وأوروبا الغربية. وقد ساعدت هذه الرؤية في تجاوز الخلافات التي تحدث بين فترة وأخرى، واستمر التعاون بين البلدين في التسعينيات، ثم أصيبت العلاقات مجددًا بانتكاسة واضحة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر رغم دخول المملكة بقوة في الحرب الدولية على الإرهاب، ثم الغزو الأمريكي للعراق في مارس 2003. ولكن ساعد البلدين في الحفاظ على العلاقات القوية الرؤية الحكيمة لخادم الحرمين الشريفين بالحفاظ على تميز العلاقات مع كافة الدول والعمل على تجاوز الخلافات. وعلى الرغم من الحملات الإعلامية المغرضة ضد المملكة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، وهجوم كتّاب أمريكيين على المملكة، بل وإصدارهم الكتب التي تحاول تضليل الرأي العام الأمريكي، بات واضحًا أن ما يدعو إليه هؤلاء من قطع للروابط بين المملكة والولاياتالمتحدة ليس سوى جزء من حملة مشبوهة تستهدف مصالح شخصية معينة، حيث صدر تقرير لجنة سبتمبر الأمريكية يبرئ المملكة من كل الاتهامات. وظهرت على الجانب الآخر أصوات متزنة تقدر للمملكة دورها الفعّال كشريك رئيسي في الحرب على الإرهاب الذي يهدد العالم كله. وقد أثارت تجربة المملكة في مكافحة الإرهاب إعجاب الخبراء في الولاياتالمتحدة، وأشادت الإدارة الأمريكية في أكثر من مناسبة بنهج المملكة في ملاحقة الإرهاب والحملات الأمنية الناجحة للقضاء على الفئة الضالة وكذلك ببرامج التوعية والمناصحة. وقد أتت الإدارة الأمريكيةالجديدة ورئيسها باراك أوباما بتوجه محمود رأى ضرورة إصلاح صورة الولاياتالمتحدة والدعوة إلى تقارب الحضارات لا تصادمها، ونظرًا لأن ذلك هو توجه المملكة الثابت، رعت المملكة في نيويورك في الثاني عشر من نوفمبر عام 2008 مؤتمر حوار الأديان بمشاركة 17 رئيسًا ورئيس حكومة وعلى رأسها الولاياتالمتحدة. وفى الثاني من ابريل العام الماضي استقبل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز أثناء حضوره هامش القمة الاقتصادية لمجموعة العشرين في لندن الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وتناول الاجتماع بحث جهود البلدين الصديقين في إطار الجهود الدولية المبذولة لإنعاش الاقتصاد العالمي ليتجاوز الأزمة التي يشهدها حاليًّا ويستعيد اتجاهه نحو النمو، والحيلولة دون استمرار المشكلات التي يواجهها، وتطرق الزعيمان إلى تطورات الأحداث على الساحتين الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها الوضع في فلسطين وضرورة تحقيق السلام العادل والشامل الذي يضمن للشعب الفلسطيني إقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني، وفقًا لقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية. وشملت المباحثات كذلك آفاق التعاون بين البلدين الصديقين وسبل دعمها في جميع المجالات بما يخدم مصالحهما المشتركة. وفى يونيو من العام الماضي تعمّد الرئيس الأمريكي باراك أوباما استهلال جولته إلى الشرق الأوسط بزيارة المملكة وبحث مع خادم الحرمين الشريفين مجمل الأوضاع والمستجدات في الساحتين الإقليمية والدولية وفي مقدمتها تطورات القضية الفلسطينية، إضافة إلى آفاق التعاون بين البلدين الصديقين وسبل دعمها وتعزيزها. وقد منح خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الرئيس أوباما قلادة الملك عبدالعزيز الخاصة بكبار قادة دول العالم وزعمائه. والتقى الزعيمان مجددًا في واشنطن في يونيو الماضي لمزيد من التباحث حول تعزيز العلاقات بين البلدين. وعلى الجانب الاقتصادي، استمرت العلاقة الإستراتيجية بين البلدين بالتطور والازدهار عامًا بعد عام، وذلك كنتيجة طبيعية لدعم قيادات البلدين لهذا التوجه، وفي السنوات الأخيرة وصل مستوى هذه العلاقة لأوج ازدهاره حيث خضع للكثير من الاتفاقيات التي أعادت هيكلة وتنظيم الاستثمار والتبادل التجاري المشترك، وفى كل المباحثات بين قادة البلدين كانت هناك مشاورات ومبادرات وأفكار اقتصادية طموحة تتعلق بهذا الجانب الحيوي لدراسة المستجدات ومعالجة أية معوقات طارئة ومتابعة وتنفيذ التوصيات السابقة وتوقع أي اتفاقية من شأنها دعم هذه الجهود البناءة. ومن غير المستغرب أن نرى العلاقة الاقتصادية بين البلدين على ما هي عليه اليوم من تطور، فالمملكة تعتبر من أكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، إذ تحتل المرتبة ال15 من بين أكبر الشركاء التجاريين على المستوى العالمي، وتحتل المرتبة الأولى على مستوى منطقة الشرق الأوسط. كما أن الولاياتالمتحدة تحتل المرتبة الأولى في قائمة أكبر عشر دول مصدرة للسعودية وتعد ثاني أكبر الأسواق العالمية المستوردة من المملكة.