فيكثر الحديث عن الهدر المالي أو هدر الموارد على تنوع وتعدد حالاتهما، من سوء إدارة، أو إنفاق على مشاريع غير مجدية، أو وضع اليد على الأموال العامة وسلبها من خلال مشاريع وهمية، إلا أن الموضوع الذي يعنينا هو هدر الإنسان تحديدا، بمعنى التنكر لإنسانيته وعدم الاعتراف بقيمته وكيانه وحقوقه، هذا الهدر هو بداية الانكسار الفعلي للمواطنة بسبب ثقافة الولاء وهي البنية الفوقية التي تسند بنية العصبية وهي تذهب مباشرة على النقيض من ثقافة الإنجاز حيث يقوم الولاء على معادلة التبعية المكانة الحظوة والنصيب من الغنيمة، وحيث تهمش الكفاءات لحساب الولاءات يخسر الوطن طاقة أبنائه وإبداعاتهم، وبالتالي الإفلاس التنموي . إن محور أية محاولة تنموية ينطلق أساسا من تحرير الإنسان قبل كل شيء، وأنه لا فائدة من خوض أية معركة تنموية قبل عتق الإنسان وتحريره، ذلك لأن الثروة البشرية هي الثروة الحقيقية لأي مجتمع، وبقراءة تقرير التنمية العربية نجد أن رأس المال البشري يسهم بما لا يقل عن(64%) من أداء النمو، فيما لا يشكل رأس المال والموارد الطبيعية مجتمعين سوى (36%)من هذا الإسهام، فالإنسان هو الهدف والمحور والأساس في كل تنمية، ومن أجل تمكين هذا الإنسان وبناء حالة الاقتدار لديه يجب أن يتم ذلك من خلال تحريره من الحرمان بجميع أشكاله وخصوصا الحرمان من الحرية والمعرفة. وبالتالي يجب الاعتراف بحق الإنسان بالكيان وصيانة حرمة هذا الإنسان، وتأمينه من الحاجة والخوف كشرط مسبق لبناء حالة الاقتدار الإنساني الذي يشكل نواة أي نجاح أو إنجاز أو إنتاج أو تقدم أو تنمية . لكن العصبيات الطائفية والعشائرية والإقليمية والفئوية والمناطقية والولاءات والانتماءات الضيقة. وهي الأساس لهدر الإنسان كياناً وشخصية، وهي وحي ثقافة الولاءات والعصبيات التي تفرض حصارا على أتباعها من خلال النظام المتمثل بثنائية الطاعة والولاء مقابل الحماية والرعاية والنصيب من الغنيمة، تنتشر هذه العصبيات في مؤسسسات المجتمع قاطبة، وتحولها إلى مراكز نفوذ لجني الغنائم، وبالتالي فهي تفرض الرضوخ والتبعية والانقياد الطفلي لقاء الحماية والمغانم، إنها تقوم بخصاء طاقات النماء والنزوع إلى الاستقلال الراشد، وتحويل أتباعها إلى كائنات طفيلية، وبالتالي تصبح الأولوية في مختلف مؤسسات القطاع العام العربية للولاء وليس للأداء، فيكون لسان الحال:( أنت جيد ما دام ولاؤك مضمونا، عندها تنال نصيبك من الغنيمة والحماية، ولا يهم بالطبع أداؤك مهما كان رديئا، والويل كل الويل لمن يخرج عن الولاء مهما كان أداؤه متميزا). إن الولاءات والأصوليات من أسباب الانغلاق الذي يوهن الانتماء الوطني، وهناك تبادل أدوار بين العصبية والأصولية. «العصبية، من حيث بنيتها، ذات مضامين عدوانية وتحمل شحنة العدوان قابلة لأن تتحول إلى صراعات دامية وتصفيات، من خلال العصبية أو الأصولية تنهار العلاقات الإنسانية. ويذهب ابن خلدون إلى أن العصبية تمنح الدعوة الدينية قوة وفاعلية ماديتين. فما بين العصبية والأصولية رابطة وشيجة. هنا يتم هدر كيان الأعضاء على مستوى البنية الداخلية، وهدر الآخر الغريب الذي تتكون بنية العصبية من خلال التنكر له والصراع معه. ومع هذا الهدر المزدوج يأتي هدر المؤسسات وهدر الوطن، حيث لا تعترف العصبية بشيء فوق كيانها، ولا حتى خارج كيانها ذاته. العصبية نظام مغلق مدفوع بدينامية الجمود والعادة والتقليد والحفاظ عليها؛ وبذا فهي تعيد إنتاج ذاتها، إنها هوية ولاء وانتماء بدلا من أن تكون هوية بناء وإنجاز، والعصبيات تلتهم أبناءها كي تتغذى وتقوى. وبدون الالتهام فإنها تضعف وتموت. الناس أدوات العصبيات والأصوليات من خلال استقطاب الأتباع وقولبتهم فكريا وإيديولوجيا، وتحويلهم إلى مبشرين بشعاراتها، العصبية كما الأصولية، تبنيان قوتهما ومنعتهما على التبعية والولاء المطلقين . إن ثقافة الولاءات التي تصنع سلوكيات التزلف والنفاق، وتوطن النفس على التملق والتغامض عن السقطات والأخطاء والجرائر الكبيرة، ولا يكفي هذا فثقافة الولاءات ابتكرت الحاشية والبطانة لكي يُلقى عليها اللوم وتصبح كحمال الأسية، ومشاجب تعلق عليها أخطاء النافذين، هذا ولازالت ثقافة الكفاءات وتكافؤ الفرص والتقدير بحسب حسن الأداء والإنجاز كلها، مجرد شعارات واضبارات في تعاميم وأنظمة القطاع الحكومي الرسمي، فخسرنا الإنسان العامل المنتج وكسبنا العمل الرديئ المغشوش، وانتعشت ثقافة الولاءات لأن الطلب عليها أكثر.