كل «الكوارث» بما فيها كارثة سيول جدة الأخيرة يرجع الشاعر علي بافقيه أسبابها إلى ما حصل في المدارس والجامعات خلال الثلاثين سنة الماضية والذي ينظر إليه على أنه ليس «سوى الجهل الذي يتم تكريسه».. كما لا يعفي بافقيه ما حصل في هذه المؤسسات التعليمية مما حاق بالساحة وأحدث «أزمة الإبداع»، مضيفًا إليها «الصحوة» و»الطفرة».. مشيرين في هذا السياق إلى أن المجتمع يفتقد إلى «الثقافة الحقوقية التي تؤدي إلى الرهافة الإنسانية». الخلط والاستسهال وأمور أخرى لا تقال بحسب توصيف بافقيه عوامل أدخلت الشعر في عنق الزجاجة، الأمر الذي أصبح معه الشاعر اليوم عرضة للازدراء، مبينًا أن القصيدة العمودية القصيدة العمودية لم تعد صالحة بل أصبحت تشويهًا لتراثنا الشعري، وأن اجترار الأغراض الشعرية القديمة ما هو إلا هروب إلى الخلف وركون إلى الغفلة.. أما موقف بافقيه من ورود قصص ليوسف المحيميد في مجموعة احتوت على قصة لكاتب إسرائيلي، ورفضه لدعوة معرض الكتاب بإيطاليا، وانحيازه للمرأة في ديوانه «رقيات»، وتجربته في ديوانه، وموقفه من قصيدة النثر وغير ذلك فمبثوث في ثنايا هذا الحوار.. سلوكيات استفرادية * بعد أن أعاد نادي الرياض الأدبي إصدار ديوانك الأخير «رقيات» والأول «جلال الأشجار» نشب خلاف بينكما.. فما السبب؟ لم ينشب خلاف بيني وبين النادي؛ كل ما في الأمر أنني كنت أجيب على أسئلة للصحافة وأعبّر عن دهشتي من سلوكيات فردية (استفرادية) لا مبرر لها، كان النادي في غنى عنها. حتى الناشر نفسه استنكرها. ولا أزال أعتقد أن ما قلته كان من حق النادي عليّ ومن حقي على النادي. إنها مصداقيتي وضعتها بين يدي النادي. لا خلاف * ولماذا لا يكون نادي الرياض قد أحب أن يصحح خطأ تلك السنوات الماضية في حق الإبداع المحلي التي كانت تطبع وتوزع خارج الوطن، ورد لك ولغيرك بعضًا ممّا كنتم تستحقونه في الماضي؟ هذا ما فعله النادي ولا ينكره أحد، وهم أصدقائي وأساتذتي، وأعانوني على النشر، ويتفهمون ما أقوله، فلا يوجد خلاف كما تظن. وقد يكون واحد بالعشرة لا يود فعل ذلك وجاء تنفيذ المهمة بيد الواحد بالعشرة. علاقة مشوّهة * ألا يحدث هذا في كل مكان؟ لاشك أن مثل هذا يحدث. وهو يحدث بشكل كارثي بعيدًا عن النادي في السلوك اليومي والدوائر الحكومية. هذه ثقافتنا اليومية لأننا لا نرى العلاقة التبادلية بين المصلحة العامة والمصلحة الذاتية. لا نرى أن المصلحة العامة تعود إيجابيًّا على مصلحة الفرد وكذلك مصلحة الفرد وحقوقه تعود إيجابيًّا على مصلحة المجتمع بكامله. إنها علاقة تبادلية إذا تشوّهت تشوّه السلوك العام بكامله. نحن لا نرى ذلك؛ لأننا نفتقر إلى الثقافة الحقوقية التي تؤدي إلى الرهافة الإنسانية. مثل تلك السلوكيات اليومية تحدث فقط في العالم العربي وأدغال أفريقيا، ولهذا لا يفهم الكثير من المثقفين ما يقوله الأستاذ إبراهيم البليهي. ألا تخشى أن يغيب أحد الدواوين الأخرى عن إصدارات أدبي الرياض؟ هناك ايجابيات لإصدار المجموعتين في كتاب واحد. حماقة الإهمال * ألا تخشى أن ينظر لإصدارك ديوانين في كتاب واحد أنك تواري قلة إنتاجك الشعري؟ ليس بيدي أن أواري شيئًا؛ فهذه المسألة ليست بحاجة إلى غطاء. أحسن الظن بي وقل إنني أفضّل النوع على الكم، أو إنني مقل. ربما أكون ارتكبت حماقة عندما أهملت قصائدي الأولى وهذا ما عاتبني عليه صديقي وأستاذي عبدالعزيز مشري وطلب مني العودة إلى أوراقي القديمة. في كل الأحوال لن أنجو منك، ولهذا لن أعود لا وراقي القديمة فأنا أعيش وحيدًا في المستقبل. عشق ومجاسدة * 97 صفحة و 13 قصيدة هي حصيلة جديدك في «رقيات».. لماذا تتأخر في إخراج القصيدة؟ هذا السؤال يلاحقني باستمرار، ويبدو أنه سؤال وجيه. الذي أعرفه أنني أتعامل مع القصيدة بعشق يصعب وصفه لا أتوهمها بل أعيشها؛ أنها مجاسدة أو تداخلات حقيقية. هذيان وازدراء * أحدث قصائدك في ديوان «رقيات» بتاريخ 2002 ونحن في عام 2010.. ألا يوجد طوال هذه الفترة ما حفزك لكتابة قصيدة واحدة؟ كان الشاعر يهيم في البرية ويهذي مع نفسه وربما يصرع من شدة الذهول والتأمل وتخليق اللغة فيجدون له عذرًا، أما اليوم فإنه سيتعرض للازدراء وسيأخذونه إلى الطائف وربما إلى الهيئة. أرق الشاعر * هل المطلوب من الشاعر أن يتجاوب مع كل مناسبة؟ لا شيء مطلوب من الشاعر سوى الشعر. ما يؤرق الشاعر هو ما وراء الهموم والأفراح، ما وراء الهزائم والانتصارات، ما وراء الذات ما وراء الوقائع وقس على ذلك. الشاعر يقول ما لا يقوله غيره. الحياة أصبحت مركّبة وأكثر تعقيدًا وأكثر عمقًا؛ كذلك هو الشعر. وحيد ومحتشد * وفقًا لما تقول.. ما الظروف التي تحرص على استغلالها لكتابة القصيدة الشعرية لديك؟ الرغبة في الكتابة، وأن أكون وحيدًا ومحتشدًا وخارجًا عن المألوف. هل ترى أن قلة إنتاج الشاعر ميزة أم عيب؟ أرى أنها ميزة، وأعتقد أن الشعر بشكل عام نادر وجوهري، فهو قليل، إنه أشبه بالأحجار الكريمة النادرة. أزمة ثقة * في ضوء ما تقول.. هل تراجع الشعر اليوم أو قل في ظل سطوة الرواية في المشهد الثقافي؟ هناك عدم اكتراث بمتابعة ما هو جديد وحتى ما هو معروف في المشهد الشعري وتقييمه بمصداقية بعيدًا عن المجاملات والممالآت والعجالات لهذا يكثر الانزواء وعدم المبالاة، ولا تُسْفر التيارات أو المدارس الفنية عن وجهها لضيق الساحة وضعفها وكثرة الأهواء وسوء الفهم. لاحظ أن صدور كتاب أو مقال لا يحرك ساكنًا وهذا يشير إلى أزمة الثقة بما ينشر وما يكتب، وهناك أسباب كثيرة وماثلة لأزمة الثقة هذه. تكريس الرواية * الجوائز الروائية اليوم تأخذ بعدًا أكبر مما تأخذه الجوائز الشعرية.. لماذا؟ الساحة بحاجة ماسة إلى تكريس الرواية في المشهد الإبداعي المحلي وهذا مطلوب بشكل ملحّ وصل حد الضرورة. وهو لا يعني الانصراف عن الشعر؛ فهذا ليس من صالح الرواية والعكس ليس من صالح الشعر. الحقيقة أن شاعرنا وإنساننا المغترب غازي القصيبي هو من فتح القفص وأعطى الضوء الأخضر وإلا فإن هناك تجربة المشري وليلى الجهني وتجارب أخرى سابقة كانت جديرة بتحريك الساحة تجاه الرواية. منعطف خطير * تحديدًا ممَّا يعاني الشعر اليوم؛ قلة الاحتفاء، تراجع الدور والمستوى، ضعف التلقّي.. ماذا هناك بالضبط؟ الشعر يقع الآن في عنق الزجاجة، أو إنه في منعطف خطير لحدوث خلط واستسهال وإلى آخره مما ليس يقال، وعملية الإنتاج الشعري ونقده يعوزها التريث وصقل الضمير وصقل الذائقة والهوس بالجمال والفن. لا شك أن هناك مغريات وآفات تدفع للتعجل، ولكنني أثق أن الكثيرين بين النقاد والشعراء يفهمون ويتفهمون ولديهم القدرة والإمكانية للدفاع عن ما هو جميل ومقاومة ما هو بشع سواء في الشعر أو في السلوك. توهج وانجذاب * من واقع تجربتك.. كم تستغرقك القصيدة من الوقت عندك لكي تولد؟ لا يوجد تشابه بين قصيدة وأخرى؛ أحيانًا تأتي دفعة واحدة. وأحيانا يأتي مقطع أو مطلع. بعضها يلح عليّ فأعود إليه. «نون النخلة» مثلاً كتبتها دفعة واحدة ثم بيّضتها بعد فترة. «لها ما تشاء» كتبت أول مقطع منها فقط ثم توقفت وكأن كل شيء قد توقف؛ بل إن كل شيء قد توقف فعلاً. ثم أتممتها بعد فترة لأن المطلع ألَحّ عليّ وفتح أمامي نوافذ أوسع من مجرد امرأة واحدة إلى حالة أو رمز أو علامة. إنه ليس زمن أو مدة بالمعنى الذي في السؤال يمكنك أن تسميه لحظات التوهج أو الانجذاب أو الاحتشاد إن صح التعبير. كنت ومنصور زكري نجلس أمام فرقة روسية في فندق بالمنامة بعد فترة طلبتُ ورقة وكتبت مسودة قصيدة البكاء على حافة الخشبة. بالمناسبة تلك الفرقة لم تكمل سنة هناك لقد ذهبت كما يختفي من حياتنا ومن مكاننا كل شيءٍ راقٍ وجميل. تشويه التراث الشعري * بما أن الشعر يعكس هموم الفرد والمجتمع ومعاناتهما، ومع اختلاف الأجيال، وتطور أشكال القصيدة، هل تعتقد أن القصيدة العمودية لم تعد صالحة للتعبير بلسان هذا الجيل فخرجت قصيدة التفعيلة والنثر؟ العمودية بالمعنى المدرسي أو المفهوم السائد لم تعد صالحة بل إنها أصبحت تشويهًا لتراثنا الشعري. أما الشكل بإيقاعه الخارجي وقوافيه المصقولة سيبقى تشكيلاً إيقاعيًا ونحتيًا يثري العملية الإبداعية. قيم مندثرة * وهل يمكن أن تحتوي قصيدة التفعيلة أو النثر على ذات الأغراض التي طرقتها من قبل العمودية؟ هناك قيم كانت المجتمعات بحاجة إليها في غابر الزمان من أجل البقاء. هذه القيم اندثرت وما بقي منها أصبح له أبعاد أخرى، أما الأغراض القديمة فإنه يتم اجترارها من باب الهروب إلى الخلف أو الركون إلى الغفلة. الثقافة اليومية السائدة * وما هذه القيم الواجب على الشاعر أو المثقف ترسيخها اليوم في المجتمع؟ القيم تنشأ من أجل الحفاظ على تماسك المجتمع وبقائه والارتقاء به. والقيم في المحصلة هي (الثقافة اليومية السائدة) إنها حاصل وملموس وماثل شئنا أم أبينا ولا ينفع البكاء على اللبن المسكوب ولن تنفع عرقلة الشيخ إبراهيم البليهي بل الحوار معه ومحاولة فهمه وفسح المجال لتطوير مشروعه بصدر رحب وأخضر. والقيم في هذا الزمن يتم تحويلها إلى قوانين. وليس بيد المثقف سك القوانين ولكن بيده المطالبة بها فقط. مؤشر إيجابي * كيف ترى الاهتمام بالإبداع المحلي في ساحتنا.. هل حظي بما يستحق؟ تم الإجهاز على هذا الاهتمام منذ ربع قرن فلم يعد هناك فرق بين ما هو إبداع وما هو خارج الإبداع. لكن الاهتمام بالرواية مثلاً والفعاليات التي تحدث هذه الأيام مؤشر إيجابي، وعلينا أن نتفاءل وأن نلاحظ وأن يتقبلوا ملاحظاتنا بصدر أخضر. لا مشكلة * ماذا عن مقال الأستاذ محمد السحيمي ورفضك دعوة لحضور معرض الكتاب في إيطاليا؟ لست ضد اللقاءات والحوارات كما يظن صديقي محمد السحيمي، ولا أرى مشكلة في وجود قصة للأستاذ يوسف المحيميد بين مجموعة قصص كانت واحدة منها لكاتب إسرائيلي، ويبدو أن السحيمي استقى معلوماته من حوارات في مواقع الإنترنت، وأساس الموضوع أن برنامج المعرض يحتوي إقامة احتفال بمناسبة استقلال إسرائيل في الوقت نفسه الذي هو مناسبة النكبة عند الفلسطينيين. كوارث عامة * برأيك من الذي حد من تأثيركم في مرحلة الثمانينيات وما بعدها؟ الصحوة والطفرة وتشويه المدارس والجامعات. هذا الأخير يمكن أن نسميه كارثة عامة يتم الصمت حولها وأتمنى أن يتم تحقيق في ما حصل للمدارس والجامعات خلال الثلاثين سنة الماضية فهو السبب الأساس وراء جميع الكوارث بما في ذلك كارثة جدة وما شابهها والسلوك العام المشين وفوضى المرور وترهل الدوائر الحكومية. إن ما يحدث في سلوك الشباب لا يشبه الماضي ولا الحاضر ولا الشرق ولا الغرب ولا يشبهنا ولا يشبه شيئا سوى الجهل الذي يتم تكريسه في المدارس والجامعات. * لماذا تواريت عن الساحة بعد تلك المرحلة.. أهو زهد عن الأضواء؟ كنت أبحث عن ذاتي بين الأنقاض. أما الزهد في الأضواء فليست عبارة واضحة بالكامل؛ لكنك أمام خيارين إما أن تفقد مصداقيتك أو أن تحافظ عليها. تسييس الدين * مَن من جيلك سلك نفس سلوكك واحتجب عن الأضواء؟ هناك من يبحث عن ذاته وهناك من يتأمل المشهد كما هو حال عبدالكريم العودة ومحمد عبيد الحربي، وهناك من ضيّع اللبن. لا يمكن أن ننكر أن تسييس الدين أجهض مشاريع النهضة وشوّه جوهر الدين فحورب حتى الشيخ محمد عبده الذي هو الأكثر مصداقية وعمقًاً * ما تقول به من آراء سياسية واجتماعية لا مظهر له في شعرك.. فما السبب؟ هناك فرق جوهري بين البحث أو المقالة وبين الشعر. الحياة كلها توجد في القصيدة بغض النظر عن موضوعها. ممارسة الإبداع * أين تقف من نعت أحد النقاد العرب لك ب»الشاعر الهاوي».. هل ثمة هواية واحتراف في الشعر؟ في هذه الحالة العربية يصعب أن تكون الفنون حرفة وخاصة الشعر. الشعر والإبداع بشكل عام ليس في أن تقوله وتكتبه فقط بل في أن تمارسه أيضًا. أعتقد أن الإبداع ممارسة وحياة يومية. أفق خاص * في «جلال الأشجار» تراوحت التجربة بين التفعيلة والنثر.. وفي «رقيات» طرقت التفعيلة فقط.. هل تراجع موقفك من قصيدة النثر؟ لا أعتقد أنني تراجعت. لكنني أبحث عن أفق يخصني. سنة مميزة * الهندسة المدنية والنحت في الخرسانات الصماء يقابله النحت في ألفاظ اللغة هل أثر أحدهما على الآخر عندك؟ لا بد أن هناك أثرًا، وربما يكون في اللاوعي. لكنني انغمست في الشعر بشكل تام منذ الرابعة عشر كنت في الثانية المتوسطة، لن أنسى هذه السنة الدراسية أبدًا لقد كانت مفصلاً في حياتي. بلورة في «رقيات» *ما سبب ولعك الكبير بالمرأة حد تسمية مجموعتك الثانية «رقيات»؟ هي تجربة شخصية مررت بها عند قصيدة الغصن الأسود، وهي عبارة عن مجموعة قصائد قصار في مجموعتي الأولى، تلك التجربة فتحت أمامي آفاقًا شخصية وإنسانية تبلورت في مجموعة «رقيّات». * من أين استوحيت العنوان «رقيات»؟ من الجذر اللغوي والجذر الميثولوجي في الجزيرة العربية، من التعاويذ والرُّقَى. * هل يمكن أن نصفه بحالة شعرية أنثوية مسكونة بداخل الشاعر؟ هذا صحيح ولكنه جزء من التوصيف. المرأة الحلم * في قصيدتك الأولى «نون النخلة» هل أردت تشبيه المرأة بالنخلة.. وإلى أي حد يصدق هذا التشبيه؟ نعم. إنها المرأة الحلم وهذا يصدق لأنني أثق في قدرة المرأة على العطاء عند تحرير طاقاتها وتجريب قدراتها وذلك حين تخوض غمار الحياة. سطوة البياض * البياض المنتشر على صفحات المجموعتين إلى ماذا تعزوه؟ هناك أسباب مختلفة منها أن الفراغات بين المقاطع جزء من النص ومنها ما لم يكتب ومنها ضرورة التوقف أو التأمل.. إلى آخره. * وهل قصدت منه أن يبقى القارئ في حالة تأمل قبل الانتقال للقصيدة الأخرى؟ نعم.. * بماذا تفسر تكرار بعض المفردات في قصائدك؟ لا أجيد تفسيرها.